«الذكاء الاصطناعي»... العربي يمكن أن يكون أكثر من «مُستخدم»

«الذكاء الاصطناعي»... العربي يمكن أن يكون أكثر من «مُستخدم»

ما فعله العالم العربي إزاء قضية «الإعلام الجديد» يتكرر بالتفاصيل ذاتها في مسألة «الذكاء الاصطناعي»، وكأننا لا نتعلم من أخطائنا، ولا نطور استجاباتنا، مهما كانت الدروس قاسية والأثمان مُكلفة.

يقول كارل ماركس إن «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة». ويبدو أننا بالفعل ما زلنا نعيش أجواء «مأساة» تخلفنا عن امتلاك زمام المبادرة في عالم «التواصل الاجتماعي»، والاكتفاء بدور المُستخدم النهم والشاكي في آن، بينما نسعى الآن لكي نعيش أجواء «مهزلة» أن نكون مُستخدمين نشطين وشغوفين بمنتجات «الذكاء الاصطناعي»، من دون أن نطور أدواتنا الخاصة لولوج هذا العالم، والتأثير الإيجابي فيه.

فعلى مدى أكثر من عامين، انعقدت مئات اللقاءات والورشات والندوات، في دول عربية عدة، لمناقشة أبعاد تطورات «الذكاء الاصطناعي»، وسبل الاستفادة عربياً منها، بما يخدم قضايا العلم والتنمية والإعلام.

وإضافة إلى تلك الاستجابات النقاشية، فقد أظهرت الجامعات العربية وعياً مبكراً بقضية «الذكاء الاصطناعي»، وسخَّرت لها موارد، بغرض التعلم وتعزيز أنماط الاستخدام، فضلاً –بالطبع- عن الجهود النظرية الضخمة التي استهدفت تقصي فوائد هذا «الذكاء» وعيوبه، سعياً إلى تعظيم الاستفادة، وتجنب المغارم.

وفي الإحصائيات الجادة التي استهدفت تعيين مستويات الاستخدام عبر دول العالم، ظهرت دول عربية في مقدمة القوائم، بما أكد أنها مُنتبهة ويقظة بما يكفي لتلقي هذا المُنتج، واستخدامه عملياً لخدمة كثير من العمليات في مجالات شتى، تبدأ بالمعرفة وتمر بالأنشطة العملية وعمليات التعلم والإنتاج الإبداعي، وصولاً إلى الترفيه والتسلية.

وكما حدث تماماً في قضية «الإعلام الجديد»، وعالم وسائل «التواصل الاجتماعي»، اكتفى معظم الدول العربية، ومؤسساتها المعنية، بمحاولة تعزيز دور «المُستخدم» في مجال «الذكاء الاصطناعي»، ورغم وجود استثناءات محدودة في هذا الصدد، فقد كانت الاستجابة العربية الإجمالية منحصرة في خدمة فكرة «التلقي» عبر البحث عن سبل تعظيم مردود الاستخدام، وتجنب مثالبه.

لكن ما فعلته الصين التي أطلقت أداة «الذكاء الاصطناعي» الجديدة «ديب سيك»، في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، كان استجابة من نوع آخر؛ إذ أكدت أنها فاعل ومؤثر لا يُستهان به في عالم هذا «الذكاء»، وقد حققت هذا الاختراق في ظل ظروف غاية في الصعوبة، وتحت حظر تكنولوجي لم يثنها عن تقديم منتجها الذي أدهش الدوائر الغربية، وأربكها في آن.

فلم تكد تمر عشرة أيام منذ إطلاق «ديب سيك»، حتى تصدّر قائمة التطبيقات المجانية في المتاجر الإلكترونية العالمية، حتى إنه حظي في تلك الفترة البسيطة بنحو 3 ملايين عملية تحميل، وأدى هذا الاختراق إلى خسائر موجعة لبعض شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى؛ إذ خسرت شركة «إنفيديا» العملاقة لصناعة الرقائق الإلكترونية وحدها ما يقارب 600 مليار دولار أميركي من قيمتها السوقية، يوم الاثنين الماضي، ما عُدّ أكبر خسارة عرفتها شركة في يوم واحد في التاريخ.

ولم يجد صُناع تكنولوجيا «الذكاء الاصطناعي» الغربيون ما يقولونه عن «ديب سيك»، عقب انطلاقته المُذهلة، سوى الإشادة به، والتأكيد على مميزاته، والإعجاب بالقدرة الصينية في تصنيعه، في وقت تعاني فيه البلاد تداعيات حظر تصدير الرقائق الإلكترونية إليها، ضمن الحرب الصناعية والتكنولوجية التي تخوضها واشنطن ضدها.

لم تقف الصين –بوصفها دولة ومجتمعًا علميًّا وصناعيًّا- مكتوفة الأيدي أمام التطورات المذهلة في مجال «الذكاء الاصطناعي»، ولم تعدم الحلول في تخطي عقبات الحظر والمنافسة الشرسة مع الغرب، ولم تعجزها النفقات الضخمة التي قيل إن المطورين الأميركيين تكبدوها لتطوير منتجاتهم؛ لكنها تخطت ذلك ببساطة، وأطلقت أداتها الخاصة لتكون أفضل إسهام لها في هذا المجال.

يحفل العالم العربي بكثير من الجهود العلمية والأنشطة والسياسات التي تستهدف تحقيق مفهوم «الأمن الفكري»؛ وبين مقومات هذا «الأمن» المُبتغَى، يجري الحديث عن سبل «المواجهة» و«التحصين» و«التمسك بالثوابت والقيم»؛ لكن كثيرين لا يفطنون إلى أن إحدى أهم دعائم هذا «الأمن» المُتوخى تكمن في امتلاك أدوات صناعة الوعي والفكر والخطاب نفسها.

وبينما تأخرنا كثيراً في اجتراح وسائل «تواصل اجتماعي» عربية، بتقنية ومفاهيم وقواعد استخدام مواتية، يبدو أن الأمر يتكرر مع أدوات «الذكاء الاصطناعي».

لدى بعض الدول العربية كثير من المقومات العلمية والعملية والمالية التي تمكِّنها من ولوج عالم «الذكاء الاصطناعي» من باب امتلاك أدواته، وتشغيلها، وليس فقط تحسين شروط استخدامها، والأمر هنا يتطلب قراراً وخطة عملية وموارد، وسيكون التأخر في ذلك المضمار خطأ تاريخياً جديداً.
 


نقلاً عن الشرق الأوسط



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية