رواندا بين قبضة الدولة وحرية المعتقد.. أزمة القيود الدينية تحت المجهر الإنساني

رواندا بين قبضة الدولة وحرية المعتقد.. أزمة القيود الدينية تحت المجهر الإنساني
مجلس حقوق الإنسان

في سياق متابعة التزامات الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، شهدت الدورة الحالية من الاستعراض الدوري الشامل (UPR) التي عُقدت في يوليو الجاري تقديم عدد من التقارير الحقوقية والأممية التي سلّطت الضوء على أزمة الحريات الدينية في رواندا، وقد شكّل تقرير التحالف الإنجيلي العالمي (WEA) جزءًا أساسيًا من هذا الجهد الدولي لمساءلة الحكومة الرواندية عن سياساتها تجاه المنظمات الدينية.

ويُعَدّ الاستعراض الدوري الشامل آلية مهمة لتقييم مدى التزام الدول بتعهداتها في إطار المواثيق الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وخلال هذه الدورة، طرح خبراء ومنظمات غير حكومية أسئلة جوهرية حول مدى مشروعية القيود المفروضة على الكنائس، وتناسبها مع الهدف المعلن بحماية الصحة العامة والسلامة، كما شددوا على ضرورة اعتماد تدابير أقل تقييدًا، واحترام حق المجتمعات الدينية في التنظيم الذاتي وتحديد قياداتها دون تدخل حكومي مباشر.

وسلطت هذه الدورة الضوء على اتساع الفجوة بين نصوص الدستور الرواندي، التي تكفل حرية المعتقد والعبادة، وبين الممارسات الفعلية التي أسفرت عن إغلاق آلاف الكنائس وفرض قيود تعجيزية على تسجيل المنظمات الدينية، وقد حثّت توصيات مقدَّمة في الجلسة حكومة رواندا على مراجعة قانون المنظمات الدينية ولوائحه التنفيذية بما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، في خطوة تُؤمَل أن تمثل بداية لتصحيح المسار.

تعيش رواندا منذ سنوات حالة شدّ وجذب بين مؤسسات الدولة والمجتمع الديني، وسط اتهامات متزايدة بتقويض حرية الدين أو المعتقد من خلال قوانين ولوائح صارمة، وسلط  تقرير التحالف الإنجيلي العالمي (WEA)، المقدم في يوليو 2025 إلى الاستعراض الدوري الشامل، الضوء على التدهور المقلق في التزامات رواندا الدولية والدستورية تجاه الحرية الدينية.

قيود تحت لافتة التنظيم

أقرّت رواندا في 2018 قانونًا تحت عنوان "تحديد تنظيم وعمل المنظمات الدينية"، يُلزم الكنائس والمساجد بتسجيل رسمي، ويفرض متطلبات صعبة، منها شهادات لاهوتية إلزامية للقادة الدينيين، وإعادة هيكلة المباني لعزلها صوتيًا، وتوفير مواقف سيارات، ورغم منح فترة سماح من خمس سنوات، جاء التطبيق الصارم لاحقًا ليثير جدلاً واسعًا.

ففي يوليو وأغسطس 2024، فتّش مجلس حوكمة رواندا أكثر من 13,000 دار عبادة، وأُغلِق قرابة 7,700 منها، وفق الأرقام الرسمية، لكن تقديرات أخرى تتحدث عن إغلاق 10,000 كنيسة بنهاية يوليو و8,000 إضافية بحلول أغسطس. الحكومة بررت ذلك بعدم الامتثال، إذ تُقدّر أن 70% من الكنائس لم تستوفِ الشروط.

وانتقدت تقارير حقوقية هذه الإجراءات، معتبرةً أنها تجاوزٌ غير مبرَّر يطال حتى المخالفات البسيطة التي كان يمكن تداركها دون إغلاق، وقد أكد تقرير رابطة الكنائس الخمسينية في رواندا أن اشتراط حصول القساوسة على شهادات أكاديمية، على سبيل المثال، يُناقض جوهر حرية الدين التي تُعطي المجتمعات الدينية حق تحديد معايير قادتها.

كما شددت التقارير على أن اللوائح الدينية تُطبَّق بمعايير أكثر تشددًا من تلك المفروضة على المنظمات غير الحكومية، التي لا تُلزم قادتها بحيازة شهادات جامعية أو امتلاك مبانٍ واسعة. وأثار ذلك تساؤلات حول حياد الدولة تجاه الأديان المختلفة.

خوف وصلاة في الخفاء

تأثير اللوائح القاسية لم يقف عند حدود القوانين، بل انعكس على حياة آلاف المواطنين، وصرّحت امرأة فقدت كنيستها بعد الإغلاق: "نحن مُجبرون على الصلاة في الخفاء بصوت منخفض خوفًا من الاعتقال"، فيما أشار قس خمسيني إلى أن المصلين باتوا يتجنبون التجمعات خوفًا من المداهمات والملاحقة.

ويحظر القانون الأنشطة الدينية غير المسجلة، بما في ذلك الاجتماعات المنزلية، ما يضاعف الضغط النفسي والروحي على المجتمعات الدينية، وتؤكد منظمة الأبواب المفتوحة أن جنون العظمة الديكتاتوري هو السبب الرئيسي وراء هذا الاضطهاد.

وفي مارس 2025، شددت رواندا قبضتها أكثر: فُرضت رسوم خدمة غير مستردة تبلغ نحو 1,500 دولار أمريكي لتسجيل المنظمات الدينية، وأصبح لزامًا أن تضم كل منظمة 1,000 عضو مؤسس على الأقل، كما اشترطت اللوائح الجديدة ألا تُستخدم أماكن العبادة إلا حصريًا للطقوس الدينية، مما جعل التبشير في الأماكن العامة والتجمعات المنزلية أمرًا غير قانوني.

توازيًا، أصدرت الهيئة الرواندية الكاثوليكية في يونيو 2025 إرشادات تمنع النبوءات الكاذبة أو المعجزات، وهي عبارات مبهمة تسمح عمليًا للدولة بالتحكم في مضمون العظة الدينية نفسها.

تناقض مع الدستور والمواثيق الدولية

تعارض هذه الإجراءات، بحسب تقرير WEA، مع دستور رواندا نفسه الذي يكفل حرية المعتقد، فضلًا عن نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، ويؤكد التقرير أن القوانين الحالية لا تستخدم أقل الوسائل تقييدًا لتحقيق أهدافها المشروعة، بل تطول كل المنظمات الدينية دون تمييز.

وظهرت نتائج هذه السياسات سريعًا، فقد ارتفع اضطهاد المسيحيين في رواندا من 42 نقطة عام 2021 إلى 58 نقطة عام 2025 في قائمة الأبواب المفتوحة، لتدخل رواندا ضمن الدول الخمس والستين الأكثر اضطهادًا للمسيحيين عالميًا، كما اضطر قساوسة للهجرة إلى دول مجاورة مثل أوغندا وتنزانيا، فيما أصبح تأسيس كنائس جديدة شبه مستحيل.

هذه السياسات لم تضرّ بحرية العبادة فحسب، بل أضعفت أيضًا دور المجتمعات الدينية في تقديم الدعم الاجتماعي والخيري لملايين الفقراء والنازحين، خاصةً أن العديد من الكنائس المستهدفة كانت كنائس شعبية صغيرة تُقدّم مساعدات تعليمية وطبية للفئات الأشد فقرًا.

حماية الدين لا تقويضه

يطالب التحالف الإنجيلي العالمي (WEA) رواندا بمراجعة القوانين واللوائح بما يضمن توافقها مع المعايير الدولية، ويدعو إلى منح المنظمات الدينية حق التنظيم الذاتي، بدلًا من فرض معايير بيروقراطية تعجيزية، كما يشدد على ضرورة تطبيق سياسات مرنة لتصحيح المخالفات بدلًا من إغلاق دور العبادة.

منظمات حقوق الإنسان ترى أن الحرية الدينية ليست مجرد بند قانوني، بل حجر أساس لمجتمع مدني حر ومتعدد، وأن التضييق المستمر يقوّض ثقة المواطنين بالدولة، ويُعزز الانقسامات بدلًا من الوحدة الوطنية.

يذكر أن رواندا وقّعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، ويمثل المسيحيون نحو 90% من سكان رواندا البالغ عددهم قرابة 13 مليون نسمة.

صعود اللوائح القمعية ارتبط بخطاب رسمي يتهم الكنائس بالاستغلال المالي للمؤمنين، إلا أن التطبيق العملي طال الأغلبية الساحقة من الكنائس، بما فيها تلك التي تلتزم بالقانون.

ازدادت وتيرة التضييق منذ عام 2018 بشكل متسارع، مع تراجع مساحة النقد الإعلامي وغياب آليات قضائية مستقلة للطعن في قرارات الإغلاق.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية