معاناة «عُمّال الطابوق» في العراق.. مهنة شاقة وتلوث قاتل
معاناة «عُمّال الطابوق» في العراق.. مهنة شاقة وتلوث قاتل
بدأت داليا غالي، البالغة من العمر 17 عامًا، يومها قبل طلوع الفجر، حاملةً حجارة الطابوق على ظهر حمار في أحد معامل صناعة الطابوق التقليدية في العراق، حيث أجبرت ظروف الحياة القاسية هذه الفتاة وشقيقتها رُقيّة على ترك المدرسة والانخراط في العمل الشاق لضمان بقاء أسرتهما على قيد الحياة.
ووفقا لوكالة "فرانس برس"، انخرطت عائلات بأكملها في هذه المهنة المرهقة، التي تعتمد على حرق مواد نفطية غير معالجة، ما يؤدي إلى انبعاثات سامة تؤثر على صحة العاملين والبيئة المحيطة.
وأعلنت الحكومة العراقية في أواخر عام 2024 إغلاق أكثر من 100 معمل للطابوق قرب العاصمة بغداد، بسبب عدم التزامها بالمعايير البيئية، في خطوة تنذر بإغلاق المزيد من المصانع التي توظف مئات الأشخاص.
وقفت داليا، المغطاة بالغبار، قرب مدينة الكفل في محافظة بابل، ثاني أكثر محافظات العراق فقرًا، قائلةً: "تعبت كثيرًا، لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ لولا عملي أنا وشقيقتي، لما تمكنت عائلتنا من العيش"، وأكدت أن عائلتها التي تضم 17 فردًا، بينهم مسنون مرضى وأطفال، تعيش في ظروف صعبة، حيث لا يملكون حتى هاتفًا أو تلفازًا.
واقع الفقر والعمل القسري
أجبرت الظروف الاقتصادية داليا على ترك المدرسة منذ أن كانت في العاشرة من عمرها، وقالت بأسى: "لو كنت أملك المال، لعُدت إلى الدراسة، لكنني لا أملك شيئًا"، على الرغم من إدراكها لصعوبة العمل.
وشددت داليا على رفضها أن ينخرط أشقاؤها الأصغر في المهنة ذاتها، قائلةً: "نعلم مدى التعب الذي قد يعانونه".
وكشفت الإحصاءات الرسمية أن 17% من سكان العراق، الذين يزيد عددهم على 45 مليون نسمة، يعيشون تحت خط الفقر.
وأكد تقرير للأمم المتحدة عام 2018 أن 5% من الأطفال العراقيين دون سن 14 عامًا يعملون في ظروف غير ملائمة.
بيئة عمل قاسية
اضطر العمال إلى الاستمرار في عملهم رغم المخاطر البيئية والصحية، حيث يبدأ يومهم في الشتاء منذ الساعة الثانية فجرًا، وسط البرد القارس، ويستمر حتى الظهر، وتراوحت أجورهم اليومية بين 20 ألف دينار عراقي (نحو 15 دولارًا) و50 ألف دينار (38 دولارًا)، وهو مبلغ بالكاد يكفي لسد احتياجاتهم الأساسية.
في الصيف، تتغير مواعيد العمل، فتبدأ مع منتصف الليل وتنتهي قرابة الثامنة صباحًا، لتجنب الحرارة المرتفعة التي تجاوزت في بعض الأيام 50 درجة مئوية.
رافقت الشقيقتان عمهما عطية غالي، البالغ من العمر 43 عامًا، الذي عمل في معامل الطابوق منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، حتى أصبح اليوم مشرفًا على ثلاثة أقسام.
تضمنت مراحل العمل تحميل النساء والأطفال لحجارة الطين على الحمير، التي تسير بها إلى الأفران الضخمة، حيث يكدس العمال الطوب داخلها، ثم يشعلون المحركات النفطية التي تنفث أدخنة كثيفة لتسخين الطوب لمدة أربعة أيام، حتى يتحول إلى اللون الأصفر ويصبح جاهزًا للبيع.
حياة بلا دعم حكومي
واجه العمال معضلة عدم كفاية الأجور لتلبية احتياجات أسرهم، وأكد عطية غالي أنه لا يعرف مهنة أخرى، مضيفًا: "إذا أُغلق المعمل، سأضطر للنزوح بحثًا عن عمل مماثل في مكان آخر".
وخلال الصيف، انتقل العمال إلى مساكن طينية متهالكة قرب المعامل، هربًا من انقطاع الكهرباء والمياه في بلد يمتلك ثروات نفطية هائلة، لكنه يعاني من بنى تحتية متهالكة بسبب الحروب والفساد والسياسات غير الفعالة.
صُنّف العراق سادس أكثر بلد يعاني من تلوث الهواء في العالم عام 2023، وفقًا لشركة "آي كيو إير" المتخصصة في مراقبة جودة الهواء عالميًا.
مخاطر مهنية قاتلة
انخرطت تحرير حمزة، زوجة عطية غالي، في العمل منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، حلمت بأن تصبح ربة منزل، لكنها اضطرت لمزاولة المهنة لمساندة زوجها، وتمنت أن يحصل أبناؤها على فرص تعليمية أفضل، قائلةً: "لا أريد لهم أن يعيشوا المصير نفسه، أريدهم أن يصبحوا أطباء".
واصل العمال العمل رغم المخاطر، حيث تعرض بعضهم لحوادث قاتلة، مثل سقوطهم داخل الأفران أو تقطعهم بآلات التقطيع.
وقال صباح مهدي، أحد العمال، إن زميلًا له لقي حتفه "فرمًا" بآليات التقطيع، وآخر "احتراقًا" داخل الفرن، وسجل العام الماضي وفاة 28 عاملًا وإصابة أكثر من 80 آخرين، بسبب انفجارات مخازن الوقود، وحرائق، وانهيارات في المصانع القديمة.
مطالبات بحلول حكومية
أعرب العمال عن استيائهم من غياب الدعم الحكومي، وطالبوا بتحسين ظروفهم المعيشية، قال صباح مهدي، الذي يعول 5 أطفال بينهم اثنان من ذوي الاحتياجات الخاصة: "ليس بمقدورنا التوقف عن العمل ولو ليوم واحد"، متسائلًا: "متى ستنظر الحكومة في حالنا؟".
وفي فرن مجاور، وقف حمزة، الأب لطفلين، وهو يعاني من سعال مزمن بسبب استنشاق الأدخنة، قائلاً بأسى: "طلب مني الطبيب أن أتوقف عن العمل، لكنني لا أستطيع"، وتمنى أن يغادر المعامل يومًا ما ليشتري سيارة أجرة ويبني منزلًا، لكنه يدرك أن هذا الحلم قد يبقى بعيد المنال.