في ظل كثافة الاستهلاك.. هل يتحول شهر رمضان إلى موسم للاستغلال التجاري؟
في ظل كثافة الاستهلاك.. هل يتحول شهر رمضان إلى موسم للاستغلال التجاري؟
لا يقتصر تأثير شهر رمضان المبارك، في الجوانب الروحية والاجتماعية فحسب، بل يمتد ليشمل أبعادًا اقتصادية عميقة تُعيد تشكيل ديناميكيات الأسواق والمراكز التجارية في العالمَين العربي والإسلامي.
ويُعد رمضان بمنزلة محرك اقتصادي قوي، حيث تشهد قطاعات متعددة، مثل الأغذية والملابس والهدايا، ارتفاعًا ملحوظًا في حجم المبيعات، ما يُسهم في تحفيز النشاط التجاري وخلق فرص عمل مؤقتة، خاصة في قطاعات المطاعم والضيافة والخدمات اللوجستية، هذه الظاهرة الاقتصادية الفريدة تستحق التحليل العميق، خاصة في ظل تزايد الاعتماد على البيانات والإحصاءات لفهم تأثيراتها في الاقتصادات المحلية والإقليمية.
ويُعد رمضان شهرًا استثنائيًا بالنسبة لتجار التجزئة والموزعين، حيث يرتفع الإنفاق على المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 30% مقارنة بالشهور الأخرى، وفقًا لتقرير حديث صادر عن غرفة التجارة الدولية في دول مجلس التعاون الخليجي.
ويُعزى هذا الارتفاع الكبير إلى زيادة الطلب على السلع الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت، بالإضافة إلى المنتجات الموسمية المرتبطة بالشهر الكريم، مثل التمور والعصائر الرمضانية والحلويات التقليدية. على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، يُقدَّر حجم الإنفاق على المواد الغذائية خلال رمضان 2023 بنحو 4 مليارات دولار، وفقًا لبيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية.
ويشهد قطاع الملابس، طفرة كبيرة خلال الأسابيع التي تسبق رمضان، حيث تُشير الإحصاءات إلى أن مبيعات الملابس ترتفع بنسبة تصل إلى 25% مقارنة بفترات أخرى من العام، هذا النمو يُعزى إلى العادات الاجتماعية التي ترتبط بالمناسبات الدينية، مثل شراء الملابس الجديدة استعدادًا لعيد الفطر، بالإضافة إلى الحملات التسويقية المكثفة التي تطلقها المراكز التجارية لجذب العملاء في مصر، وقد بلغت قيمة مبيعات الملابس خلال رمضان 2023 نحو 1.2 مليار دولار، وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هذه الأرقام تؤكد أن رمضان ليس مجرد شهر للعبادة، بل هو أيضًا فرصة اقتصادية ذهبية لتجار التجزئة لتعزيز أرباحهم وتوسيع نطاق أعمالهم.
ولا يقتصر التأثير الاقتصادي لرمضان في قطاعَي الأغذية والملابس فقط، بل يمتد ليشمل قطاع الهدايا، الذي يشهد بدوره نموًا ملحوظًا خلال الشهر الكريم، تُشير البيانات إلى أن الإنفاق على الهدايا يرتفع بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالشهور الأخرى، وفقًا لتقرير اتحاد غرف التجارة العربية، هذا الارتفاع يُعزى إلى العادات الاجتماعية التي ترتبط بتبادل الهدايا بين الأهل والأصدقاء، خاصة في الأعياد والمناسبات الدينية.
وفي الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، بلغت قيمة مبيعات الهدايا خلال رمضان 2023 نحو 800 مليون دولار، وفقًا لبيانات مركز دبي للإحصاء. هذه الأرقام تعكس الدور الكبير الذي يلعبه رمضان في تعزيز قطاع التجزئة، حيث يُصبح الشهر الكريم منصة مثالية لتعزيز الروابط الاجتماعية من خلال تبادل الهدايا.
فرص عمل مؤقتة
ويُسهم رمضان في خلق فرص عمل مؤقتة في العديد من القطاعات، مثل المطاعم والضيافة وقطاع المواد الغذائية؛ إذ تُشير الإحصاءات إلى أن عدد الوظائف المؤقتة التي يتم توظيفها خلال الشهر الكريم يرتفع بنسبة تصل إلى 20% مقارنة بالشهور الأخرى، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة العمل العربية، هذا الارتفاع يُعزى إلى زيادة الطلب على الخدمات في هذه القطاعات، خاصة في المطاعم التي تقدم وجبات الإفطار والسحور.
في تركيا، على سبيل المثال، بلغ عدد الوظائف المؤقتة التي تم توظيفها خلال رمضان 2023 نحو 150 ألف وظيفة، وفقًا لبيانات وزارة العمل التركية. هذه الأرقام تعكس الدور الكبير الذي يلعبه رمضان في تحسين مؤشرات سوق العمل، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه العديد من الدول.
ومع هذه الزيادة الكبيرة في حجم المبيعات وفرص العمل، تبرز أيضًا بعض التحديات التي تواجه الأسواق والمراكز التجارية خلال رمضان.
من أبرز هذه التحديات ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، خاصة في الأيام التي تسبق الشهر الكريم، حيث تُشير البيانات إلى أن أسعار المواد الغذائية ترتفع بنسبة تصل إلى 15% خلال الأسابيع الأولى من رمضان، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو).
ويشهد الإنفاق الإلكتروني أيضًا زيادة كبيرة خلال رمضان، حيث تُقدَّر قيمة المبيعات عبر الإنترنت بنحو 3 مليارات دولار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الشهر الكريم، وفقًا لتقرير صادر عن شركة "بي تبس" المتخصصة في تحليل البيانات.
ويرى خبراء أن شهر رمضان يُعد ظاهرة اقتصادية فريدة من نوعها، حيث يُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد من خلال زيادة حجم المبيعات في قطاعات متعددة، مثل الأغذية والملابس والهدايا، هذه الزيادة لا تُعزى فقط إلى الطبيعة الاستهلاكية للشهر الكريم، بل أيضًا إلى العادات والتقاليد الاجتماعية التي ترتبط به، ما يجعله فرصة ذهبية للعديد من القطاعات الاقتصادية لتعزيز أرباحها.
وتبرز أيضًا بعض التحديات التي تواجه الأسواق والمراكز التجارية خلال رمضان، مثل ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، ما يتطلب تدخلًا حكوميًا لضمان استقرار الأسواق وحماية المستهلكين. في النهاية، يظل رمضان شهرًا يجمع بين الروحانيات والاقتصاد، حيث يُصبح العبادة والاستهلاك وجهين لعملة واحدة.
تحديات حقوقية
حقوقيًّا، قال الخبير والبرلماني البحريني السابق، عبد الله بن زيد، إن شهر رمضان يأتي باعتباره فترة زمنية ذات أبعاد متعددة تجمع بين الجوانب الروحية والاجتماعية والاقتصادية، ما يجعل تأثيره في الأسواق والمراكز التجارية ظاهرة تستحق التأمل من منظور حقوقي، فمن جهة يشهد هذا الشهر زيادة كبيرة في حجم المبيعات، خاصة في قطاعات الأغذية والملابس والهدايا، ما يعكس انتعاشًا اقتصاديًا يخلق فرص عمل مؤقتة، ويعزز الحركة التجارية، لكن من جهة أخرى يطرح هذا التحول الاقتصادي تحديات تتعلق بالعدالة الاقتصادية، وحقوق العمال، وحماية المستهلك، والحق في بيئة عمل لائقة.
وتابع عبد الله بن زيد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، يتجلى الأثر الاقتصادي لرمضان بشكل واضح في ارتفاع الأسعار الناجم عن زيادة الطلب، وهو ما يثير تساؤلات حقوقية تتعلق بحق المستهلك في الحصول على السلع بأسعار عادلة، وفقًا للمادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحق لكل فرد مستوى معيشي لائق يوفر له ولأسرته الغذاء والملبس والسكن، غير أن الواقع يشير إلى أن بعض التجار يستغلون الحاجة المتزايدة في رمضان لرفع الأسعار بشكل لا مسَوِّغ له، ما يثقل كاهل الفئات محدودة الدخل، ويؤثر في قدرتها الشرائية، خاصة في ظل غياب آليات رقابية صارمة، ويعد ذلك إخلالًا بمبدأ الإنصاف في السوق، وخرقًا لحقوق المستهلك التي تحميه من الاحتكار والممارسات التجارية غير العادلة.
واسترسل، على الجانب الآخر، تشكل زيادة الطلب على السلع والخدمات فرصة لتعزيز التوظيف، حيث يرتفع الطلب على العمالة المؤقتة في قطاعات مثل المطاعم والتجزئة وخدمات التوصيل، ورغم أن هذا يوفر مصدر دخل للكثيرين، فإن العمال في هذه الفئات غالبًا ما يواجهون انتهاكات لحقوقهم الأساسية، مثل العمل لساعات طويلة دون تعويض مناسب، أو عدم الحصول على إجازات كافية، أو حتى حرمانهم من الأجور العادلة، وهذا يتعارض مع المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على حق كل فرد في ظروف عمل عادلة وأجر متساوٍ.
وقال إن كثيرًا من الأسر، تحت ضغط العادات الاجتماعية والإعلانات التجارية المكثفة، تنفق بشكل مفرط على السلع الاستهلاكية، ما يؤدي إلى الإسراف والتبذير، وهذا السلوك يتناقض مع مبادئ التنمية المستدامة التي تدعو إلى تحقيق التوازن في توزيع الموارد، كما يتعارض مع الحق في الغذاء للجميع، حيث إن زيادة الاستهلاك تؤدي أحيانًا إلى ارتفاع الأسعار على حساب الفئات الأكثر هشاشة، العدالة الاقتصادية تفترض أن تكون الموارد متاحة ومتوزعة بشكل يضمن عدم تضرر الفئات الضعيفة من التغيرات في الأسعار.
وأضاف: “تبرز الحاجة إلى سياسات أكثر فعالية لضبط الأسواق خلال شهر رمضان، سواء من خلال فرض رقابة صارمة على الأسعار، أو ضمان حقوق العمال المؤقتين، أو تعزيز ثقافة استهلاكية مسؤولة، وينبغي أن تتبنى الحكومات إجراءات تمنع الاحتكار والاستغلال التجاري، بما يحقق التوازن بين مصالح التجار والمستهلكين، ويعزز مبدأ تكافؤ الفرص في السوق، كما يجب أن تسن قوانين تضمن حقوق العمال الموسميين، سواء من حيث ساعات العمل أو الأجور أو الحماية الاجتماعية، ما يسهم في تحسين بيئة العمل بشكل يتماشى مع معايير حقوق الإنسان”.
انتعاش موسمي أم فقاعة؟
وقال الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رشاد عبده، إنه مع دخول هذا الشهر، تتبدل ديناميكيات العرض والطلب، وتزداد حركة الأسواق والمراكز التجارية بشكل ملحوظ، مدفوعة بالإنفاق المرتفع على المواد الغذائية، الملابس، والهدايا، ورغم ما يبدو أنه انتعاش اقتصادي، فإن التدقيق في تفاصيل هذه الظاهرة، يكشف عن تحديات اقتصادية أعمق، تتعلق بالاستدامة، العدالة الاقتصادية، والتخطيط المالي للأسر.
وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، الطلب المتزايد خلال رمضان يؤدي إلى ارتفاع المبيعات، لكن المشكلة تكمن في أن هذا النمو ليس ناتجًا عن توسع اقتصادي حقيقي، بل هو أشبه بـ"فقاعة موسمية" سرعان ما تنكمش مع انتهاء الشهر، فالإنفاق الاستهلاكي لا يعكس بالضرورة تحسنًا في القدرة الشرائية، وإنما يعبر عن تحولات مؤقتة في أولويات الاستهلاك، ما يضعف الجدوى الاقتصادية طويلة الأمد لهذا النمو الموسمي، وهذا النمط من الاستهلاك غير المستدام يؤدي إلى اختلالات في التوزيع، حيث تشهد بعض القطاعات ازدهارًا مؤقتًا، في حين تبقى قطاعات أخرى في حالة ركود نسبي.
واسترسل، من الناحية النقدية، تؤدي هذه الطفرة الموسمية إلى ضغط تضخمي على الأسعار، حيث يستغل بعض التجار زيادة الطلب لرفع الأسعار، ما يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم الاستهلاكي خلال رمضان، وهذا الأمر يفاقم التحديات الاقتصادية التي تواجه الأسر ذات الدخل المحدود، والتي تجد نفسها مضطرة لإنفاق جزء أكبر من دخلها على الاحتياجات الأساسية خلال الشهر من الناحية النظرية، يتوقع أن يؤدي ارتفاع الطلب إلى زيادة الإنتاج، ولكن في العديد من الدول النامية، تواجه الأسواق صعوبات في الاستجابة السريعة للطلب؛ بسبب ضعف البنية التحتية وسلاسل التوريد، ما يفاقم مشكلة ارتفاع الأسعار دون أن يترجم ذلك إلى تحسن في الإنتاجية أو خلق فرص اقتصادية مستدامة.
وأشار إلى أن أحد الجوانب الأكثر لفتًا للنظر هو تأثير رمضان على سوق العمل، حيث يزداد الطلب على العمالة المؤقتة في قطاعات مثل تجارة التجزئة، المطاعم، وخدمات التوصيل نظريًا، يُعد هذا إيجابيًا لأنه يخلق فرص عمل إضافية، لكنه في الواقع يسلط الضوء على مشكلة أعمق تتعلق بعدم استدامة هذه الوظائف، حيث تُسرَّح الغالبية العظمى من العمال فور انتهاء الشهر، كما أن معظم هذه الوظائف تُشغل ضمن الاقتصاد غير الرسمي، ما يعني أن العمال لا يحصلون على حقوقهم من تأمينات أو مزايا أخرى، ما يجعل التأثير الاقتصادي لهذه الوظائف محدودًا على المدى البعيد.
وقال إنه بالرغم من كون شهر رمضان يمثل فرصة اقتصادية للعديد من القطاعات، فإن تأثيره في الاقتصاد يعتمد -بشكل كبير- على قدرة الأسواق على إدارة الطلب الموسمي بشكل مستدام. إن الدول التي تملك سياسات اقتصادية مرنة، مثل وضع سقف للأسعار، وتعزيز المنافسة، ودعم القطاعات الإنتاجية، تستطيع تقليل الأخطار التضخمية، وتعزيز الاستفادة من هذا الشهر، أما الاقتصادات التي تفتقر إلى أدوات ضبط السوق، فقد تجد نفسها أمام تحديات تضخمية واضطرابات اقتصادية لا تخدم سوى فئات معينة على حساب المستهلكين.
وأتم، التأثير الاقتصادي لرمضان يجب ألا يُنظر إليه -فقط- من زاوية المبيعات والإنفاق، بل من منظور أوسع يتعلق بكفاءة الأسواق، واستدامة الوظائف، وتوزيع المنافع الاقتصادية بشكل عادل.