الكونغو الديمقراطية.. «حقوق الإنسان» بين وعود الإصلاح وواقع الانتهاكات
في إطار الاستعراض الدوري الشامل
على مدار ثلاثة عقود على الأقل، لم تعرف جمهورية الكونغو الديمقراطية سوى لغة الصراعات والانتهاكات والأزمات الداخلية، ما أدى إلى تراكم ملف حقوقي مثقل بالانتهاكات، يخضع حاليًا للمراجعة الدورية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في دورته الـ58 المستمرة حتى 4 أبريل المقبل.
ويأتي هذا التقييم الحقوقي في وقت تسيطر فيه حركة 23 مارس المتمردة على مدينتين رئيسيتين، ما يعزز الضغوط على الحكومة الكونغولية وسط تراجع أوضاع حقوق الإنسان.
ويرى خبراء في الشأن الإفريقي، تحدثوا إلى "جسور بوست" أن هذا الاستعراض يشكل فرصة حاسمة لمساءلة الحكومة الكونغولية التي تجد نفسها، إلى جانب العديد من حكومات القارة، مجبرة على مراجعة سياساتها الحقوقية خشية الانتقادات الدولية والعقوبات المحتملة.
في 4 مارس الجاري، كشفت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن استمرار العنف المروع وانعدام الأمن في شرق الكونغو، مما أجبر عشرات الآلاف على الفرار عبر الحدود، إذ قال باتريك إيبا، نائب مدير قسم الحماية الدولية بالمفوضية، في تصريحات صحفية آنذاك: "العنف الجنسي وانتهاكات حقوق الإنسان لا تزال متفشية في مناطق النزاع، إلى جانب النهب والتدمير الممنهج لمنازل المدنيين والمنشآت التجارية".
ووفقًا للمفوضية، فإن نحو 80 ألف شخص نزحوا بسبب المعارك بين قوات الحكومة وحركة 23 مارس، المدعومة من رواندا، ووصل 61 ألف لاجئ إلى بوروندي منذ يناير الماضي. الأخطر من ذلك، أنه تم الإبلاغ عن 895 حالة اغتصاب خلال الأسبوعين الأخيرين من فبراير فقط، بمتوسط 60 حالة يوميًا، ما يعكس حجم الأزمة الإنسانية المتفاقمة.
وأفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بأن مسلحين اقتحموا مستشفيين على الأقل في عاصمة شمال كيفو، غوما، قبل أيام، واختطفوا عشرات المرضى، في انتهاك صارخ للقوانين الإنسانية.
وتشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من مليون لاجئ كونغولي في جميع أنحاء إفريقيا، خاصة في الدول المجاورة، حيث تستضيف أوغندا وحدها أكثر من نصف هذا العدد، وفي ظل التصعيد الأخير، أصبحت بوروندي الوجهة الرئيسية للنازحين بعد الهجوم المفاجئ الذي شنّته حركة 23 مارس في يناير الماضي.
أما داخليًا، فإن جمهورية الكونغو الديمقراطية تواجه واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، حيث يعيش 6.7 مليون شخص كنازحين داخل البلاد، في ظل انعدام الأمن الغذائي والفقر المدقع.
وتُعد الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر دولة في إفريقيا جنوب الصحراء، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 77 مليون نسمة.. ومع تزايد النزاعات والفقر في المناطق الريفية، يُجبر آلاف الشباب على الفرار إلى ضواحي المدن الكبرى مثل لوبومباشي وكيسانغاني وكينشاسا بحثًا عن فرص العمل، في ظل اقتصاد هش وبنية تحتية متدهورة.
تحت المجهر
في ظل الواقع المتدهور الذي تعيشه جمهورية الكونغو الديمقراطية، جاء الاستعراض الدوري الشامل في الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، المستمر حتى 4 أبريل المقبل، ليضع ملف حقوق الإنسان في البلاد تحت المجهر الدولي.
وركز التقرير المقدم من الكونغو الديمقراطية على عدد من التطورات، أبرزها: إنشاء الصندوق الوطني لتعويض ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات، في خطوة تهدف إلى إنصاف المتضررين من الجرائم التي تنتهك السلم والأمن في البلاد.
وجرى تعيين جوديث سومينوا تولوكا رئيسة للوزراء في يونيو 2024، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد، في إشارة إلى الجهود المبذولة لمكافحة التمييز بين الجنسين وتعزيز مشاركة المرأة في القيادة السياسية.
أشار التقرير إلى العقبات التي تواجه الحكومة في تنفيذ توصيات الاستعراض الدوري الشامل، ومن أبرزها: استمرار النزاعات المسلحة التي تغذيها الجماعات المتمردة والإرهابية، والتي تحظى بدعم بعض القوات المسلحة الأجنبية، ما يزيد من حدة التوتر وعدم الاستقرار.
اكتظاظ السجون وظروف الاحتجاز القاسية، وقد حاولت الحكومة معالجتها عبر الإفراج المشروط، والعفو، والصفح الرئاسي، مع إصدار توجيهات لتسهيل نقل السجناء إلى منشآت أخرى لتخفيف الضغط على السجون المكتظة.
خلال الدورة الـ58، يواجه وفد الكونغو الديمقراطية مطالبات دولية بالتصديق والانضمام إلى عدة اتفاقيات دولية لضمان تحسين سجلها الحقوقي، ومن أبرزها: الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
يأتي ذلك إلى جانب اتفاقية عام 1954 بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية واتفاقية عام 1961 للحد من حالات انعدام الجنسية، واتفاقية منظمة العمل الدولية الخاصة بالشعوب الأصلية والقبلية، واتفاقية مكافحة التمييز في مجال التعليم التابعة لليونسكو، والتعديلات على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بشأن جريمة العدوان.
انتهاكات ممنهجة
ويقول صالح عثمان، الحقوقي المتخصص في شؤون النزاعات، لـ"جسور بوست"، إن الاستعراض الدوري الشامل بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يتضمن تقارير متعددة، منها التقرير الحكومي الرسمي، إلى جانب تقارير الظل التي تقدمها منظمات المجتمع المدني، وتشكل هذه التقارير معًا صورة شاملة للواقع الحقوقي في البلد محل الاستعراض، والتي غالبًا ما تُفضي إلى توصيات أو قرارات أممية.
ويضيف عثمان أن إعلان الكونغو الديمقراطية عن تعيين امرأة في منصب رفيع، أو إنشاء صندوق لتعويض ضحايا العنف الجنسي، يُعدان خطوات إيجابية، لكنه يحذر من أن بعض الدول تلجأ إلى إصدار قرارات شكلية قبيل جلسات الاستعراض الدولي، بهدف تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي دون تنفيذ إصلاحات حقيقية على أرض الواقع.
ويؤكد أن القضاء على التمييز والانتهاكات الممنهجة يتطلب إصلاحات حقوقية حقيقية في بيئة تضمن ترسيخ سيادة القانون ومكافحة الإفلات من العقاب، مشددًا على ضرورة سنّ تشريعات متوافقة مع المعايير الدولية، بدلاً من الاكتفاء بآليات تعويض رمزية.
ويشدد الحقوقي عثمان على أن التعويضات في بلد يعاني نزاعات متكررة وانتهاكات جسيمة، مثل الكونغو الديمقراطية، يجب أن تكون ناتجة عن تحقيقات شفافة تحدد الجناة وتقدمهم للمحاكمة، وذلك عبر نظام قضائي مستقل يعزز الديمقراطية والمساءلة، وإلا ستبقى التعويضات بلا أثر حقيقي على تحسين الوضع الحقوقي.
كما يرجّح عثمان أن تقدم الكونغو الديمقراطية على التصديق على الاتفاقيات الدولية المطلوبة في حال تصاعد الضغوط الدولية والشعبية، خاصة أن البلاد تواجه ملفات الاختفاء القسري والقتل خارج القانون، ما يجعل الحاجة إلى إصلاحات حقيقية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ويؤكد أن الادعاء بأن النزاعات والأوضاع الاقتصادية تعوق الإصلاح الحقوقي هو مبرر غير مقبول، مشددًا على أن المساعدات الأممية يمكن أن تلعب دورًا جوهريًا في دعم سيادة القانون وبناء نظام حقوقي متكامل ينصف الضحايا.
إجراءات ضرورية
من جانبها، تقول إقبال أحمد، الحقوقية المتخصصة في الشأن السوداني والإفريقي، لـ"جسور بوست"، إن تعيين امرأة في منصب قيادي رفيع بالكونغو الديمقراطية ليس تقدمًا كافيًا في ملف حقوق الإنسان، إلا إذا تزامن مع إجراءات ملموسة لمكافحة العنف الجنسي، وإنهاء الإفلات من العقاب.
وتضيف أن الوضع في الكونغو الديمقراطية يعاني من تفشي النزاعات المسلحة، والانتهاكات الجسيمة، وخطاب الكراهية، والتجاهل المستمر لحقوق الإنسان، ما يجعل الحاجة إلى إصلاحات جوهرية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
وتشدد إقبال على ضرورة تعزيز سيادة القانون، وضمان إرادة سياسية قوية لمحاسبة الجناة، من خلال إجراءات محاكمة داخلية شفافة، وإدراج الملاحقة القضائية الدولية في القوانين المحلية لضمان عدم إفلات مرتكبي الانتهاكات من العدالة.
وتؤكد أن النساء في الكونغو الديمقراطية من أكثر الفئات تضررًا، مما يستوجب على الحكومة التصديق على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وهي خطوة قد تُشكل نقطة تحول في مواجهة الانتهاكات المستمرة، ليس فقط في الكونغو بل على مستوى القارة الإفريقية بأكملها.
وترى إقبال أن الكونغو الديمقراطية تواجه تحديات كبيرة في بناء نظام حقوقي قوي، في ظل انتشار العنف الجنسي، وتفشي الإفلات من العقاب، واستمرار النزاعات المسلحة، وتصاعد خطاب الكراهية، معربة عن أملها في أن تحقق الكونغو الديمقراطية تقدمًا ملموسًا في ملفها الحقوقي، جنبًا إلى جنب مع السودان وجميع الدول الإفريقية، لإنهاء الانتهاكات المستمرة التي تشكل عائقًا أمام استقرار القارة ومستقبلها الحقوقي.
ورغم بعض الإصلاحات التي حققتها الكونغو الديمقراطية، لا تزال أمامها تحديات جسيمة تتطلب إرادة سياسية قوية والتزامًا دوليًا لتحقيق تغيير جذري في ملف حقوق الإنسان، خاصة في ظل استمرار الصراعات الداخلية والانتهاكات الواسعة.