الديمقراطية وعودة «التنين»

الديمقراطية وعودة «التنين»

غني عن القول أن «الديمقراطية» مفهوم متطور ومتغير بتغير الزمان والمكان. ففي أثينا، مهد «الديمقراطية»، لم يكن للمرأة والعبيد والأجانب حق في المشاركة السياسية والتصويت. وهو الأمر الذي ظل قائماً حتى وقت قريب -نسبياً- في أشهر «ديمقراطية في العصر الحديث»، «الولايات المتحدة الأمريكية».

كان نظام الحكم الأمثل عند «أفلاطون»ـ في كتابه «الجمهورية» ـ هو حكم «المتميزون».. «الأرستقراطية»، وكان من رأيه أن «الديمقراطية» نظام حكم سيئ يؤدي إلى الصراعات والأزمات، وتنجم عنه فوضى، تؤدي بدورها إلى ظهور حكم «الطاغية»، ذلك الرجل الذي ينهض من وسط الفوضى والاضطرابات، ليحفظ النظام والأمن والأمان.

«توماس هوبز Hobbes» (1588 ـ 1679) فيلسوف ربوبى (Deist) -على الأغلب- وهو واحد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر الموسوعيين. هو «مكيافيللى إنجلترا في تلك الحقبة». له العديد من المؤلفات والترجمات، لكن يظل مؤلفه الأهم والأشهر هو ليفياثان Leviathan (عام 1651)، الذي يتناول فيه قضايا الحكم والدولة والدين، في ضوء الطبيعة الإنسانية.. والليفياثان هو وحش خرافي هائل الحجم، مكون من كائنات مختلفة مدمجة معاً. وقد ورد ذكره في مواقع عدة بـ«التوراة». اختلف في وصفه، وربما هو «تنين» برمائي ذو قوة هائلة، وهو عند «هوبز» يمثل سلطة الدولة المستبدة استبداداً مطلقاً، ممثلة في فرد أو مجموعة من الأفراد.

 كان «هوبز» يصف نفسه بقوله إنه هو والخوف توأمان وُلدا معاً. وقد كتب «هوبز» «ليفياثان» (أو التنين)، في ظل جو الخوف والرعب الذي أحدثته الحرب الأهلية الإنجليزية التي أسفرت عن إعدام الملك «تشارلز الأول»، وقد كان «هوبز» مربياً لابنه الأمير «تشارلز الثاني» الذي أصبح فيما بعد ملكاً خلفاً لأبيه. وكان لكل تلك الظروف والملابسات الذاتية والموضوعية انعكاساتها على كتاب «هوبز».

كتاب ليفياثان» يعد مرجعاً مهماً في الفلسفة السياسية، وسبر أغوار النفس البشرية أيضاً، وقد تأثر كثيرون من مفكرى عصر التنوير بما ورد فيه من أفكار، وإن تناولوا أفكاره بتعديل وتطوير. وهكذا كان الأمر -على سبيل المثال- مع نظريته في «العقد الاجتماعى» التى تقول إن الحاكم يحكم وفقاً لـ«عقد اجتماعى»، بدلاً مما كان سائداً -لقرون عدة- وهو أن الحكم يكون وفقاً لـ«الحق الإلهي». لقد كان عقد «هوبز» الاجتماعى نقطة تحول تأسيسية بنى عليها من بعده «جون لوك» و«روسو»، وإن اختلفت تفاصيل العقود وأطرافها.

في الجزء الأول من الكتاب، يعرض «هوبز» لمسألة «الإنسان»، وطبيعته المجبول عليها. كما يعرض لمسألة «الخير» و«الشر». فالخير الأسمى أو المطلق لا يوجد، والخير أو الشر مسألة ذاتية ونسبية، تتفاوت حسب الزمان والمكان، ومن شخص إلى آخر، وتقاس بمدى القرب أو البعد من رغباتنا الأنانية، فما نرغب فيه هو خير مطلوب، وما نرغب عنه هو شر مرفوض. وكما يقول أيضاً عن الطبيعة الإنسانية: «هناك ميل عام لدى البشرية جمعاء، رغبة دائمة لا تهدأ في امتلاك سلطة تلو الأخرى، رغبة لا تزول إلا بالموت.. لأنه لا يستطيع ضمان السلطة ووسائل العيش الكريم، الكائنة، دون اكتساب المزيد...».

والإنسان عند «هوبز»، في «الحالة الطبيعية»، حالة ما قبل ظهور التنظيم المجتمعي وتوحش ما قبل المجتمع السياسي، هو كائن أناني، حريته غير محدودة، يسعى بالقوة إلى تحقيق رغباته الخاصة والاستيلاء على ما يريد، وذلك في غياب أي سلطة، وتؤدي تلك الأنانية العدوانية، مع غياب العقاب والقوة الرادعة، إلى الفوضى والخوف من الآخر والتربص به والمبادأة بالاعتداء عليه. هي حالة فيها «الجميع يحارب الجميع» في سبيل البقاء، وتكون الحياة فيها «عنيفة مخيفة، قذرة كريهة، وحشية فقيرة»، ونظراً لفقدان الأمن والأمان والحياة الكريمة. فقد لزم وجود تنظيم مجتمعي مدني (دولة)، يعتمد على «سمات الطبيعة الإنسانية»، وليس على الأحكام والتعاليم الكنسية، ويكون ذلك وفقاً لعقد اجتماعي بين الجميع بدلاً عن الحرب بين الجميع. والعقد الاجتماعي عند «هوبز» يكون بين المحكومين، إذ يتفقون فيما بينهم على منح كل سلطاتهم وقوتهم لرجل واحد (أو لمجموعة من الرجال) ينفرد ويستبد بالسلطة، وبذلك، يتحد الجميع في كيان واحد يسمى الدولة (الليفياثان، التنين الكبير)، لكي يحفظ لها سلامها وسلامتها، ويدافع عنها، بمقتضى هذه السلطة المطلقة التي خولها له كل فرد في الدولة.

ترامب ليس وحده

مع الإيغال في الانحراف بمعنى «حقوق الإنسان». ومع ازدياد حدة الأزمات الاقتصادية، بسبب الحرب الروسية/ الأوكرانية، مع ازدياد المشكلات الناجمة عن الهجرات غير الشرعية والشرعية أيضاً، والإسلامية منها على وجه الخصوص، والتي تتبلور في صدامات ثقافية، وصلت إلى حد العنف الدموي، والرغبة والمحاولات الغبية المتسلطة من البعض، لتغيير ثقافة المجتمعات الحاضنة لهم، تلك التي وفرت لهم الأمن والأمان، وحرية الاعتقاد، بعيداً عن الاضطهاد والمذابح الدموية العرقية والمذهبية في البلاد التي فروا منها. وفي ضوء كل ما سبق، تتسارع عجلة نمو الحركات والأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة في «أوروبا» و«أمريكا»، كما يتعاظم -بمرور الأيام والأحداث- نصيبها في الحكم وفي المجالس النيابية والحقائب الوزارية، ويتم ذلك عبر آليات «الديمقراطية» التقليدية، المتعارف عليها. والقصة إذن، ليست قصة «ترامب» وحده، فالمزاج العام للناخب الأوروبى أيضاً ينحو يوماً بعد يوم ناحية التصويت لليمين المتطرف، بدءاً من الجنوب، إيطاليا وإسبانيا، مروراً بفرنسا وهولندا وألمانيا والمجر، وصولاً إلى «بولندا» و«السويد» و«فنلندا» والبقية تأتي.

أسئلة الديمقراطية الحائرة

 ترى هل تلفظ «الديمقراطية» اليوم أنفاسها الأخيرة ليظهر طغاة أفلاطون؟ أم أنها تمر بطور جديد من أطوار تحولاتها، أم أنها في طريق العودة إلى صورتها البدائية الأولى؟ وهل ارتدت «الفوضى الخلاقة» إلى صدر من أطلقوها في بلد المنشأ، ولكن لكي تنخر في عظام ديمقراطيتهم، ولتفرز حاكماً طاغية مستبداً؟ ترى هل عاد «تنين هوبز» ليهيمن على حكومات العالم؟. وللحديث بقية.


نقلاً عن صحيفة المصري اليوم


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية