في ظل التهميش الهيكلي.. كيف يعاني ذوو الهمم من غياب العدالة الاجتماعية؟

في ظل التهميش الهيكلي.. كيف يعاني ذوو الهمم من غياب العدالة الاجتماعية؟
ذوي الهمم - أرشيف

يواجه ذوو الهمم في المناطق الريفية حول العالم واقعًا قاسيًا يتسم بالعزلة الاجتماعية والحرمان من الحقوق الأساسية، وبينما يُفترض أن يكون هؤلاء الأفراد جزءًا فاعلًا في نسيج المجتمعات، فإنهم يُقصون بصمت من التعليم والرعاية الصحية وسوق العمل، في ظل بيئات تفتقر إلى الحد الأدنى من الدعم والخدمات. 

وتكشف الإحصاءات أن أكثر من 56% من سكان الريف حول العالم يفتقرون إلى الرعاية الصحية الأساسية، في حين تصل النسبة إلى 83% في إفريقيا، ما يعكس فجوةً صارخة في العدالة الصحية.

أوضحت تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية أن النقص في الكوادر الصحية في المناطق الريفية يشكل أحد الأسباب الرئيسية لهذا التفاوت، حيث يعيش نصف سكان العالم في الأرياف، لكن لا يتوفر لهم سوى 23% فقط من القوى العاملة الصحية العالمية، وأسهم ضعف التمويل والإهمال المتكرر في ترسيخ أزمة الرعاية في هذه المناطق، ما جعل ذوي الهمم أكثر عرضة للموت المبكر، والإقصاء الصحي، وغياب الوقاية.

كشفت دراسات دولية أن 98% من الأطفال ذوي الإعاقة في الدول النامية لا يحصلون على أي تعليم رسمي، ويعود ذلك إلى نقص المعدات التعليمية المخصصة، وغياب السياسات الدامجة، بالإضافة إلى التمييز الاجتماعي والثقافي الذي يدفع بالعائلات إلى إخفاء أبنائها عن المدارس، وتُعزز هذه العوامل من دوامة الفقر والتهميش التي تحاصر هؤلاء الأطفال منذ الطفولة وحتى الشيخوخة.

استبعاد اقتصادي ممنهج

واجه سبعة من كل عشرة أشخاص من ذوي الإعاقة على مستوى العالم حالة بطالة أو عدم نشاط اقتصادي، مقابل أربعة فقط من غير ذوي الإعاقة، بحسب بيانات لمنظمة العمل الدولية، وسُجل معدل بطالة متوسط يبلغ 7.6% بين الأشخاص ذوي الإعاقة، مقارنة بـ6% بين غيرهم، في نصف الدول التي تتوفر فيها إحصاءات، وأسهم غياب الفرص، ونقص التدريب، والتمييز في بيئة العمل، في ترسيخ هذه الهوة العمالية، إلى جانب دفع الكثير منهم إلى القطاع غير الرسمي، حيث تنعدم الحماية والضمانات.

وتأثرت الفئات ذات الإعاقة بشدة في أوقات الكوارث، إذ تشير دراسة للأمم المتحدة إلى أن 20% فقط منهم يمكن إجلاؤهم بسهولة عند وقوع الكارثة، كما أن معدل وفيات الأشخاص ذوي الإعاقة في مثل هذه الحالات أعلى بمرتين إلى أربع مرات من نظرائهم، وأُرجعت هذه النسب إلى صعوبة الوصول إلى خدمات الطوارئ، وانعدام التوعية، وغياب تهيئة بيئية ملائمة، واستبعادهم المتكرر من خطط الاستجابة الوطنية.

وشدد باحثون في التنمية الاجتماعية على أن التحديات الثقافية تعد من أكبر العوائق غير المرئية التي تواجه ذوي الإعاقة في الأرياف، ففي العديد من المجتمعات الريفية، ترتبط الإعاقة بالخرافة، وتُعامل كوصمة اجتماعية. 

وأفادت منظمة "Humanity & Inclusion" في نيبال أن 67% من الأشخاص ذوي الإعاقة لم يغادروا قراهم في عام 2022 خوفًا من السخرية أو النبذ، وليس بسبب نقص النقل فقط. ويؤدي هذا الإدراك المجتمعي القاصر إلى مضاعفة الإقصاء، وتحويله إلى جزء من "الطبيعة الاجتماعية" للمكان.

تهميش سياسي عميق

كشفت دراسة للإسكوا عام 2021 أن نسبة ذوي الإعاقة المشاركين في الحياة العامة في الأرياف العربية لا تتجاوز 3%، ولا يشمل ذلك فقط غياب التمثيل في المجالس المحلية، بل يمتد إلى استبعادهم من النقابات ولجان التخطيط، ونتيجة لذلك، لا تُصمم السياسات أو البنى التحتية بأخذ احتياجاتهم في الاعتبار، كعدم تهيئة الطرق للكراسي المتحركة، أو تجاهلهم في توزيع المعونات الزراعية.

وأسهم تغيّر المناخ في مضاعفة هشاشة ذوي الإعاقة في الريف، وأشارت "Global Disability Innovation Hub" إلى أن 81% من ذوي الإعاقة في مناطق الجفاف شرق إفريقيا لم يتلقوا أي مساعدات تكيفية، سواء غذائية أو مالية، وأدى غياب التكنولوجيا الزراعية المساندة إلى بقائهم خارج منظومة الإنتاج، في وقت تتطلب فيه التغيرات المناخية حلولًا تكيفية شاملة.

أظهرت فجوة الاتصال الرقمي أن ذوي الإعاقة في الأرياف يواجهون عزلة مزدوجة: مادية وتكنولوجية، وبيّن تقرير "Digital Empowerment Foundation" في الهند عام 2022 أن أقل من 7% من ذوي الإعاقة في الريف يستخدمون الإنترنت بانتظام، مقارنة بـ42% في المدن، ما يحرمهم من التعليم والعمل الرقمي، ويزيد من فجوة الجهل القسري.

وقدّمت بعض المبادرات حلولًا مبتكرة من خلال التمويل الاجتماعي المحلي، ففي رواندا، أسهمت جمعيات تمويل غير رسمية، بدعم من منظمات المجتمع المدني، في تأسيس 31% من مشاريع ذوي الإعاقة في الريف، وأتاح ذلك لهؤلاء الأفراد الدخول في دورة اقتصادية مرنة، دون الحاجة إلى انتظار السياسات الحكومية البطيئة.

ويتطلب تجاوز هذا الواقع تبني سياسات وطنية دامجة تستند إلى شراكة حقيقية مع ذوي الهمم، من خلال تمكينهم سياسيًا واقتصاديًا، وتحسين البنية التحتية الريفية، وتطوير نظم رعاية صحية وتعليمية دامجة. فحين يُكسر الصمت حول التهميش الصامت في الريف، فقط آنذاك يمكن للعدالة أن تبدأ في التحقق.

تحديات العلاج والوعي

أكدت أسماء علام، اختصاصية أمراض النطق والإرشاد الأسري، أهمية تسليط الضوء على معاناتهم المتواصلة، مشيرة إلى أنه رغم محاولاتهم المستمرة للوصول إلى الحقوق الأساسية، فإن صوتهم لا يزال غير مسموع ومعاناتهم لا تُلحظ. وقد تناولت علام، في تصريحاتها، الوضع القائم في الأرياف، حيث يعاني ذوو الهمم والفئات المهمشة من تحديات مضاعفة في الحصول على التعليم والرعاية الصحية، إضافة إلى صعوبة إيصال أصواتهم إلى الجهات المعنية.

وأوضحت علام، في تصريحات لـ"جسور بوست"، التي تعمل اختصاصية أمراض نطق وكلام وإرشاد أسري في عيادة التخاطب بمستشفى ديرب نجم المركزي بمحافظة الشرقية، بالإضافة إلى كونها أستاذًا مساعدًا في كلية التربية - قسم التربية الخاصة، أن تلك المعاناة تتجسد بوضوح في الحالات التي تشهدها يوميًا. 

وأضافت: "أرى يوميًا أطفالًا يعانون من صعوبات في النطق أو تأخر لغوي أو اضطرابات في التواصل. والعديد منهم يأتي من أسر بسيطة تعيش في قرى نائية، حيث يواجهون صعوبة في الوصول إلى الرعاية الصحية أو تأمين العلاج المناسب لهم، فضلًا عن غياب الدعم النفسي أو المعلومات التي تُطمئنهم بأنهم ليسوا وحدهم في هذا الطريق".

وتابعت، تتعدد التحديات التي يواجهها ذوو الهمم في الأرياف، وأبرزها صعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية، سواء الصحية أو التعليمية. وتُعزي علام هذه الصعوبة إلى بُعد المسافة بين القرى والمراكز العلاجية، بالإضافة إلى نقص الوعي لدى العديد من الأسر حول أهمية التدخل المبكر في حالات التأخر النطقي أو الاضطرابات اللغوية. 

وقالت علام: “الكثير من الأسر لا تدرك أن التأخر اللغوي أو اضطراب النطق ليس ”عيبًا" أو مشكلة يجب إخفاؤها. بل إن هذه المشكلات يمكن علاجها بشكل فعال إذا تم التعرف إليها في وقت مبكر. وفي بعض الحالات، يأتي الأهل متأخرين بعد أن يكون الطفل قد وصل إلى مرحلة المدرسة وتعرض للتنمر أو الرفض، ما يضيف عبئًا نفسيًا أكبر على الطفل وعلى الأسرة".

وقالت إن الوضع الاقتصادي يعد من أكبر العوائق التي تؤثر في حصول هؤلاء الأطفال على العلاج. "عندما تكون الأسرة محدودة الدخل، يصبح العلاج أو الجلسات العلاجية غير أولوية بالنسبة لهم، خاصة إذا كان لديهم أكثر من طفل يعانون من مشكلات صحية، وهناك أيضًا شعور بالعار أو الخجل الاجتماعي الذي يدفع بعض الأسر إلى العزلة، بدلاً من البحث عن الدعم أو المساعدة"، كما تقول. وأضافت أن الأمر يصبح أكثر ألمًا عندما يكون هناك أطفال موهوبون ولكنهم محرومون من فرصة تطوير مواهبهم بسبب نقص الإمكانات أو عدم وجود الدعم الكافي.

واختتمت علام تصريحاتها بالحديث عن الرسالة الإنسانية التي تؤمن بها، "دوري -كوني متخصصة في هذا المجال- ليس فقط تقديم العلاج، بل أن أكون صوتًا لهؤلاء الأطفال وأسرهم، وأحاول إيصال معاناتهم إلى العالم من خلال التقارير والمقالات، فكل تقرير أكتبه أو فرصة أتناول فيها قضيتهم هي خطوة نحو التغيير، وكل ابتسامة طفل بدأ ينطق بعد صمت طويل، أو كل لحظة أمل تظهر على وجه أم فقدت الأمل في البداية، تمنحني طاقة للاستمرار في هذا الطريق. لأن ما أقدمه ليس مجرد مهنة، بل هو رسالة وواجب إنساني تجاه الذين ليس لهم صوت".

غياب الخدمات والتهميش الاجتماعي

أكدت الخبيرة الحقوقية أسماء رمزي، أن فئات ذوي الهمم في المناطق الريفية تواجه تحديات كبيرة في مختلف نواحي حياتهم اليومية، حيث يعانون من نقص واضح في المرافق والخدمات المؤهلة التي تلبي احتياجاتهم الخاصة، وأشارت إلى أن غياب المدارس المتخصصة، المراكز الصحية الملائمة، ووسائل المواصلات التي تراعي احتياجاتهم الخاصة يشكل عائقًا رئيسيًا في توفير بيئة حياتية مريحة لهم. 

وتابعت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، قائلة: "تزداد هذه الصعوبات مع نقص الوعي المجتمعي، ما يؤدي إلى النظرة النمطية السلبية والتمييز ضد هذه الفئات، كما أن الوصول إلى الخدمات المتخصصة المتوافرة غالبًا في المدن الكبرى يصبح أمرًا بالغ التعقيد".

وأضافت أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي يُفاقم من معاناة هؤلاء الأفراد، فالفقر والبطالة يُشكّلان عقبة حقيقية في تأمين الأجهزة المساعدة أو الرعاية اللازمة، موضحة أن الظروف الاجتماعية القاسية، مثل ضعف التعليم وارتفاع معدلات البطالة، تعرقل بشكل كبير قدرة الأسر الفقيرة على توفير احتياجات أبنائهم من ذوي الهمم، كما أن محدودية الدخل تؤدي إلى ضعف قدرتهم على تلبية احتياجات أبنائهم في مجالات التعليم أو العمل، ما يسهم في تعزيز التهميش الاجتماعي لهذه الفئات.

وأكدت رمزي، ضرورة تدخل الحكومة من خلال تطبيق القوانين التي تحمي حقوق ذوي الهمم وتوفير بنية تحتية تتناسب مع احتياجاتهم الخاصة في المدارس والمواصلات العامة، مشيرة إلى أن الدور الحيوي للمجتمع المدني لا يقل أهمية، حيث يمكنه المساهمة في التوعية، وتقديم الدعم القانوني والخدمات المجتمعية، بالإضافة إلى بناء قدرات الأفراد والأسر لتقديم الدعم المطلوب.

وأوضحت أن التعاون بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني يمكن أن يسهم في تنفيذ مشاريع تنموية تركز على الإدماج والمساواة، ما يساعد على تحسين الحياة اليومية لذوي الهمم في الأرياف. 

وأكدت أن أفراد هذه الفئات، في ظل غياب البنية التحتية المناسبة، يعتمدون بشكل كبير على شبكات الدعم غير الرسمية مثل الأهل والجيران، ما يضطرهم إلى التكيف الفردي رغم المعاناة، ولعل البعض يلجأ إلى المنظمات التطوعية، ولكن وجودها في الأرياف يظل محدودًا، ما يؤدي في بعض الحالات إلى انقطاع هؤلاء الأفراد عن الحياة العامة، ومن ثم مضاعفة تهميشهم الاجتماعي.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية