الابتزاز الإلكتروني في اليمن.. وحش يلتهم الكرامة في زمن الحرب

الابتزاز الإلكتروني في اليمن.. وحش يلتهم الكرامة في زمن الحرب

في زمن الحرب والنزوح، حيث تتآكل مقومات الحياة وتتعمق الجروح، يبرز وحش جديد في اليمن لا يملك أنياباً حادة، لكنه يمتلك قدرة تدميرية تفوق أحياناً قنابل الصراع.. إنه الابتزاز الإلكتروني، الظاهرة التي تتفشى كالنار في الهشيم، لتلتهم ما تبقى من أمان وهدوء في حياة أفراد يعيشون على حافة الهاوية. 

وبينما تحصد الحرب الأرواح، يسرق الابتزاز الإلكتروني الكرامة، ويدمر السمعة، ويخنق الأمل، ليضيف طبقة جديدة من المعاناة على شعب أنهكته العقود من الصراعات. إنها جريمة تتجاوز حدود الجسد، لتغتال الروح، وتهدد مجتمعات بأكملها بالانهيار.

كابوس زهرة

في صنعاء، كانت زهرة تعيش حياة هادئة رغم صعوبات الحياة الأسرية التي تعاني منها عائلتها.. زهرة فتاة جامعية كانت تطمح لمستقبل أفضل، ولكن حياتها تحولت إلى كابوس لا ينتهي في اليوم الذي فقدت فيه هاتفها الجوال، لم تكن زهرة تعلم أن هذا الهاتف، الذي كان يحوي صوراً خاصة بها، سيصبح بوابة لجحيم من التهديدات.

بعد فترة وجيزة من فقدان الهاتف، بدأت فصول المعاناة، تلقّت ابنة عم زهرة، التي كانت ضمن جهات الاتصال في الجوال المفقود، رسائل واتساب غامضة من شخص مجهول. 

كانت الرسائل تحمل تهديداً مباشراً لزهرة، دون أن يكشف المبتز عن هويته، طلب منها الخروج من المنزل وإرسال صور جديدة، مُهدداً بنشر الصور الموجودة لديه إذا رفضت الامتثال لأوامره.

عاشت زهرة في خوف دائم، محاولة مقاومة هذا التهديد، ولكنها كانت تعلم أن الرفض قد يؤدي إلى فضحها أمام الجميع، مما سيعرضها لعواقب وخيمة في مجتمعها المحافظ، عندما رفضت إرسال المزيد من الصور، لم يتردد المبتز في تنفيذ تهديده، نشر الصورة على موقع تويتر، لتتحول حياة زهرة إلى سلسلة لا تنتهي من القلق واليأس.

الشرطة تتنصل والعائلة تعنّف

في محاولة يائسة للبحث عن حل، لجأت عائلة زهرة إلى قسم الشرطة طلباً للمساعدة، لكنهم واجهوا جداراً من التجاهل والرفض.. كان الرد قاسياً ومحبطاً: "الأمر مُعقد، الإجراءات طويلة وصعبة، ونحن غير قادرين على حماية زهرة في ظل الظروف الحالية"، عادوا إلى المنزل بلا أي حل، وكأنهم وحدهم في مواجهة هذا الخطر المتنامي.

التهديدات لم تتوقف، وزهرة أصبحت تعيش في خوف مستمر، لا تجرؤ على الخروج أو التحدث مع أي أحد، والأكثر إيلاماً هو أن المنزل الذي كان يجب أن يكون ملاذها، تحول إلى سجن آخر.. لم تجد الدعم، بل كانت تتعرض للضرب من قبل والدتها، وحتى من شقيقها الأكبر الذي كان يحاول، بيأس، السيطرة على الوضع دون أن يدرك حجم الألم الذي يسببه لها.

زهرة أصبحت مُحاصرة بين تهديدات الخارج وعُنف الداخل، بين خوفها من الفضيحة وعُزلتها داخل بيت يُفترض أن يكون ملجأها. قصتها ليست مجرد حادثة فردية، بل هي صدى لمئات، بل آلاف القصص المشابهة لفتيات وشباب يمنيين يقعون ضحايا للابتزاز الإلكتروني في ظل غياب الحماية والدعم.

أرقام صادمة وواقع مؤلم

في خضم الحرب التي تعصف باليمن، يبرز الابتزاز الإلكتروني كتهديد متزايد، مستفيدًا من ضعف البنية التحتية، تزايد الفقر، وانتشار الإنترنت دون ضوابط كافية، هذه العوامل خلقت بيئة خصبة لهذه الجريمة، والتي تتفاقم أضرارها في مجتمع محافظ يعلي من قيمة السمعة والشرف.

تُظهر الإحصائيات حجم هذه المشكلة المتفاقمة، فبين عامي 2023 وأبريل 2024، سجلت المنظمة اليمنية للتنمية والتبادل التكنولوجي 115 حالة ابتزاز عبر الإنترنت، اُستُهدفت النساء في معظمها. 

وتُشير منصة سند إلى أنها كانت تتلقى يومياً أربع حالات على الأقل من حالات الابتزاز الإلكتروني في منتصف عام 2023، حيث شكلت النساء 95% من الناجين في هذه الحالات، ما يعني أن ما يصل إلى 25 فتاة وامرأة يتعرضن لسوء المعاملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في اليمن كل يوم.

يُعد انتشار الهواتف الذكية وخدمات الإنترنت، الذي وصل عدد مستخدميه إلى أكثر من 9 ملايين يمني بحلول بداية عام 2023، أحد أهم الأسباب التي فتحت أبواباً جديدة للمخاطر. وفي ظل ارتفاع معدل الفقر لأكثر من 80% خلال الحرب، بات الابتزاز وسيلة يلجأ إليها البعض لجمع الأموال، مستغلين  ضعف الضحايا.

النساء الفئة الأكثر استهدافاً

النساء والفتيات هن الأكثر عرضة للابتزاز في اليمن، خاصة الفئة العمرية بين 21 و 24 عاماً. 

يقول الخبير في الجرائم الإلكترونية، فهمي الباحث، إن "المبتز يجد فيهن فرصة مستغلاً الوضع العام والثقافة العامة أن الفتاة تخاف أصلاً أن تتكلم. وبالتالي تكون ضحية ابتزاز سهلة ولو بأشياء بسيطة"، فالتهديد بالعائلة، الزوج، أو الإخوة، واحتمال تعرضها للقتل من عائلتها "إذا انتشرت مثلاً صورة أو فيديو ما إلى ذلك"، يجعلها فريسة سهلة. 

ويوضح فهمي أن “المجتمع الذكوري نوعًا ما، ودائماً ما يلجأ لهم (المبتزين) الضحية لأسباب ثقافية وعادات اجتماعية وقبلية،” ما يدفع الضحايا إلى السكوت خوفاً من العار والمواجهة مع أسرهم. 

ويُذكر أن في 28% من الحالات، طلب المبتز أموراً غير أخلاقية، ما يُظهر تنوع أهداف المبتزين.

تحديات قانونية ونفسية

وتتضاعف معاناة ضحايا الابتزاز الإلكتروني في اليمن بسبب غياب الدعم الفعال، سواء كان قانونياً أو نفسياً. فالأضرار النفسية التي يلحقها الابتزاز بالضحايا تتجاوز بكثير مجرد الخسائر المادية أو الفضح الاجتماعي، فقد وصفت العديد من الناجيات أضراراً نفسية شديدة تعرضن لها، بما في ذلك الشعور المستمر بالخوف والقلق، جنون الارتياب، الاكتئاب الحاد، العزلة الاجتماعية، ووصول بعضهن إلى حد التفكير في الانتحار أو محاولته، كما وثقت إحدى الناجيات التي تحدثت لمنظمة العفو الدولية.

على الصعيد القانوني، يواجه الضحايا فراغاً تشريعياً كبيراً، "لا يوجد إطار قانوني يجرم الابتزاز الإلكتروني" بشكل صريح في اليمن، على الرغم من وجود مواد عامة في القانون الجنائي يمكن تطبيقها بالقياس على بعض أشكال التهديد. 

ويؤكد الخبير على أنه "لا يوجد قانون سواء للمبتزين الإلكترونيين الذين داخل اليمن أو خارجه، لا يوجد تنسيق أمني واضح أو بروتوكولات بين الجهات الأمنية في اليمن والجهات الأمنية خارج اليمن لملاحقة المبتزين"، هذا الفراغ القانوني يعطي المبتزين حصانة شبه كاملة، ويجعل من الصعب ملاحقتهم قضائياً. 

ويعكس هذا النقص واقع ضعف القدرات السيبرانية للدولة، فوفقاً لتقييم أكاديمية الحوكمة الإلكترونية (NCSI) لعام 2020، حصلت اليمن على 6 مؤشرات فقط من أصل 77 مؤشرًا في تقييم قدراتها السيبرانية، مما يدل على بنية تحتية تشريعية وتقنية غير مؤهلة لمواجهة هذا النوع المتطور من الجرائم.

ويزيد الأمر سوءًا أن المشرعين اليمنيين فشلوا في إضافة تعديلات وتحديثات للنظام القانوني للتعامل مع العدد المتزايد من حالات التحرش عبر الإنترنت، الابتزاز، وانتهاك الخصوصية التي تؤثر في النساء بشكل خاص.

الدعم النفسي والقانوني

وتزداد صعوبة حصول الضحايا على الدعم بسبب الخوف المجتمعي، يشير فهمي، إلى أن هناك إشكالية في قدرة الضحايا على اللجوء للجانب القانوني قبل النفسي، خصوصاً إذا كان الضحايا من الإناث، فهناك خوف كبير من أن تلجأ أصلاً حتى للجهات الأمنية أو القانونية"، هذا الخوف ينبع من قناعة الضحية بأن "الموضوع سوف ينتشر وسوف يتدخل الأهل، وبالتالي سوف تجلب العار للعائلة أو للأهل".

ويوضح الخبير أن "عادة للأسف خوف الضحايا يكون من الأهل كبيراً جداً مما يضطر هؤلاء للبحث عن حلول بديلة وسهلة تضمن خصوصيتها، لأنه ليس من السهل لدينا أن قضية تُرفع للجهات الأمنية والقضائية وفي نفس الوقت تكون قادراً أن تحافظ على خصوصية الضحايا، فالدعم النفسي عادة ما يكون ضعيفًا جدًا، وقلة قليلة فقط من يدركون أهمية وجود دعم نفسي للضحايا".

كما أن الاستجابة الرسمية غالباً ما تكون غير كافية، يقول الخبير، إنه "لا يوجد ضمانات حماية أطلاقاً" للضحايا حالياً في اليمن، وعلى الرغم من وجود "محاولات في إنشاء وحدة خاصة بالابتزاز الإلكتروني في النيابة العامة في عدن، لكن لم نلاحظ دوراً مهماً أو إنجازات كبيرة لهذه الوحدة لحد الآن"، فالجهود اقتصرت في السنوات الماضية على "مبادرات شخصية سواء كان أشخاص أو مبادرات تلجأ إليها الضحايا للتعاون خصوصاً في حث المحتوى المنتشر على الإنترنت ومتابعة بعض المبتزين." وهذا غالباً ما ينتهي بـ "الصلح أو التزامات معينة بعدم النشر أو تكرار الجريمة لأنه هناك غياب قانوني وإجراءات قانونية واضحة فيما يتعلق بالابتزاز".

دور المجتمع المدني

وشدد فهمي الباحث الخبير في الجرائم الإلكترونية، على أهمية الإجراءات الوقائية الأساسية لتقليل أخطار الوقوع ضحية للابتزاز، يبدأ الأمر "بمعرفة أساسيات استخدام الإنترنت والاستخدام الصحيح له والتواصل الآمن فيما يخص التعامل مع الغرباء، وفيما يخص الحماية من البرمجيات الضارة والفيروسات وما إلى ذلك، كل هذا يأتي ضمن إطار أو جهود موحدة ما يتعلق بالتوعية."

ويرى الباحث أن دور منظمات المجتمع المدني، وإن كان متذبذباً، إلا أنه أساسي، "بالنسبة للدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في اليمن، للأسف كانت هناك محاولات بسيطة في جوانب التوعية أو حملات تستمر لأيام قليلة وتنتهي، لكن المبادرات أو هناك أشخاص يقومون بدور أكبر حالياً من منظمات المجتمع المدني سواء في التوعية أو في المساعدة". 

ويأمل أن "منظمات المجتمع المدني تتخذ دوراً أكثر أهمية وأكثر استدامة في معالجة هذه القضايا والعمل عليها، بدءاً من نشر التوعية إلى الدعم القانوني والدعم النفسي."

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية