عدالة غارقة.. اعتراض سفينة "مادلين" يكشف انهيار المنظومة الدولية أمام حصار غزة

عدالة غارقة.. اعتراض سفينة "مادلين" يكشف انهيار المنظومة الدولية أمام حصار غزة
السفينة "مادلين" - أرشيف

في عالمٍ اختُزلت فيه المآسي إلى أرقام، والصور إلى صرخات بلا صدى، تتواصل المبادرات الإنسانية لإيصال المساعدات إلى حيث تختنق الحياة، كغزة المحاصرة. 

ورغم ما تحمله من نبل، كثيرًا ما تُواجه هذه الجهود بجدران العنف الإسرائيلي والصمت الدولي، إذ يبقى طريق الغزيين إلى النجاة محاصرًا بمدافع الاحتلال وعجز القانون.

حادثة اختطاف السفينة "مادلين" المتجهة إلى غزة ليست سوى فصل جديد في سلسلة طويلة من الاستهداف الممنهج لأي محاولة لكسر الحصار المفروض على القطاع.

الحادثة التي وقعت فجر يوم الاثنين، حين أقدمت البحرية الإسرائيلية على اعتراض السفينة في عرض البحر، تجسّد الغطرسة التي تتعامل بها إسرائيل مع كل مبادرة إنسانية، مهما كانت سلمية، طالما أنها تخترق طوق الحصار الذي فُرض على أكثر من مليونَي فلسطيني منذ ما يزيد على 17 عامًا.

السفينة "مادلين" كانت تحمل على متنها 11 ناشطًا، من بينهم شخصيات دولية مرموقة مثل الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ، وعضو البرلمان الأوروبي الفرنسية ريما حسن، والصحفي عمر فياض من قناة "الجزيرة مباشر". 

ووفقًا لما كشفه مصدر مطّلع لشبكة CNN، فإن إسرائيل تعتزم نقل النشطاء إلى ميناء أشدود، قبل أن تقوم بترحيلهم سريعًا عبر مطار بن غوريون، "ما لم يختاروا الطعن في قرار الترحيل"، وفق تعبيره وتوقّع مسؤول إسرائيلي وصول النشطاء إلى الميناء في حدود الساعة الثامنة مساءً بالتوقيت المحلي.

هذا الاعتراض البحري، الذي تم في المياه الدولية كما أكدت منظمات حقوقية، مثل "عدالة"، والتي تمثّل النشطاء المحتجزين قانونيًا، لا يمكن تصنيفه إلا باعتباره خرقًا صارخًا للقانون الدولي، وانتهاكًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، التي تنص على أن المياه الدولية لا تخضع لسيادة أي دولة، وأن اعتراض السفن في هذه المناطق يُعد عملاً من أعمال القرصنة ما لم يكن مبررًا بقرار دولي أو مستندًا إلى تهديد أمني مباشر ومؤكد.

وفي هذا السياق، أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا شديد اللهجة، أدانت فيه اعتراض السفينة. وقالت أمينتها العامة، أغنيس كالامارد، إن "عملية اعتراض واحتجاز سفينة مادلين في منتصف الليل وفي المياه الدولية تنتهك القانون الدولي وتعرّض سلامة من كانوا على متنها للخطر". وأضافت أن النشطاء هم "مدافعون عُزّل عن حقوق الإنسان، في مهمة إنسانية لتوصيل المساعدات إلى غزة"، ووصفت الرحلة بأنها "رمز قوي للتضامن مع الفلسطينيين المحاصرين والجوعى والمعذبين في ظل تقاعس المجتمع الدولي".

رسالة سياسية حادة

الرسالة السياسية التي يحملها اعتراض "مادلين" ليست جديدة؛ فهي تكرار لموقف إسرائيلي طالما تعامل مع السفن الإنسانية بوصفها تهديدًا أمنيًا. لكن اللافت هذه المرة أن إسرائيل سخّرت خطابًا ساخرًا عبر قنواتها الرسمية، إذ وصفت الخارجية الإسرائيلية السفينة بأنها "يخت سيلفي يحمل مشاهير"، محاولة بذلك نزع الشرعية الرمزية عن الرحلة عبر تقزيم غاياتها، والتشكيك في دوافع المشاركين فيها.

ائتلاف "أسطول الحرية"، الذي نظم الرحلة، أكد أن الجيش الإسرائيلي "هاجم وصعد بشكل غير قانوني على متن السفينة"، وأن الاتصال بالنشطاء انقطع بعد ذلك. في المقابل، أفادت منظمة "عدالة" بأن السفينة لم تدخل المياه الإقليمية الإسرائيلية مطلقًا، وكانت متجهة نحو المياه الإقليمية لدولة فلسطين، كما هو معترف به بموجب القانون الدولي.

من جهتها، أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية أنها تتابع مع السلطات الإسرائيلية عملية إعادة مواطنيها الذين كانوا على متن السفينة، في حين طلب الرئيس إيمانويل ماكرون "اتخاذ الترتيبات اللازمة في أسرع وقت ممكن لعودتهم". غير أن الرد الفرنسي، رغم حضوره، لم يحمل لهجة إدانة واضحة، بل اكتفى بالمناشدة، شأنه في ذلك شأن العديد من الحكومات الغربية التي غالبًا ما تكتفي ببيانات دبلوماسية صامتة حين يكون المتهم هو إسرائيل.

الحصار المفروض على غزة ليس جديدًا، لكنه ازداد وحشية خلال الأسابيع والأشهر الماضية. فمنذ أكثر من 600 يوم، يعيش قطاع غزة في ظل حرب مفتوحة، وعقوبات جماعية طالت كل مظاهر الحياة، بدءًا من الغذاء والماء، وصولًا إلى الكهرباء والخدمات الصحية. 

ووفقًا لتقارير برنامج الغذاء العالمي، فإن نحو 80% من سكان القطاع يعتمدون كليًا على المساعدات الإنسانية. بينما أفاد تقرير صادر عن منظمة "أوكسفام" في مايو 2024 بأن قرابة 1.1 مليون شخص في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وأكثر من نصف مليون طفل مهددون بسوء تغذية حاد يُهدد حياتهم.

في ظل هذا الواقع الكارثي، تصبح كل محاولة لكسر الحصار عملاً بطوليًا، حتى وإن لم تصل إلى مبتغاها. فكل سفينة تبحر باتجاه غزة، حتى وإن تم اعتراضها، تُشكّل شاهدًا على وحشية الحصار، وتُعيد طرح الأسئلة الكبرى على ضمير العالم: هل بات التضامن جريمة؟ وهل أصبح الدفاع عن القيم الإنسانية يُقابل بالحديد والنار؟ بل، هل يمكن الحديث بعد الآن عن منظومة قانون دولي قادرة على حماية الأبرياء حين تفشل في حماية نشطاء عزّل؟.

اعتراض سفينة إنسانية

قالت الدكتورة جيهان جادو، المحللة السياسية ومسؤولة العلاقات العامة بوزارة الثقافة الفرنسية، إن اعتراض إسرائيل للسفينة الإنسانية المتجهة إلى غزة يشكل جريمة دولية مكتملة الأركان، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، بل ويُعدّ إضافة دامغة إلى سجل طويل من جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. ووصفت هذا الفعل بأنه ليس فقط خرقًا للقوانين التي تحمي الإغاثة الإنسانية في أوقات النزاع، بل هو استهزاء فج بالمجتمع الدولي، وتحدٍّ سافر للمبادئ الإنسانية التي أجمعت عليها الدول، بما فيها الأمم المتحدة.

وأشارت الدكتورة جادو في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن اعتراض السفينة في عرض البحر، وتحديدًا في المياه الدولية، يضع إسرائيل أمام مساءلة قانونية لا لبس فيها، لأن هذا التصرف يمثل تعديًا على حرية الملاحة، وانتهاكًا لحقوق أشخاص غير مسلحين، مدنيين، ونشطاء في مهمة إنسانية سلمية. هؤلاء لم يكونوا يحملون سلاحًا، بل كانوا يحملون رسالة حياة لقطاع غارق في الجوع والمعاناة. وأضافت أن هذا الانتهاك فجّر موجة غضب عارمة حول العالم، خاصة من دول شارك منها مواطنون في هذه المهمة، وعلى رأسها فرنسا، التي كان عدد من رعاياها على متن السفينة وتم توقيفهم من قبل قوات الاحتلال.

وتابعت الدكتورة جادو موضحة أن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة تجاوز كل الخطوط الأخلاقية، وأصبح في جوهره جريمة تتفوق في وحشيتها على الحرب نفسها. فحين يُمنع الغذاء والدواء والماء والكهرباء عن المدنيين، الأطفال والنساء وكبار السن، لا يمكن وصف ذلك سوى بأنه مشروع لإبادة جماعية ممنهجة، تُمارَس ببطء أمام أنظار العالم. وتساءلت، بمرارة، كيف يمكن للأمم أن تلتزم الصمت في حين يُمنع الهواء عن المحاصرين خلف الأسلاك، ويُترك الجرح مفتوحًا ليتقيّح فوق جراح التاريخ.

وأكدت جادو أن منع دخول المساعدات الإنسانية لا يهدد فقط بقاء الفلسطينيين في غزة، بل يقوّض استقرار المنطقة بأكملها. فحين تُمنع المساعدات ويُستهدف النشطاء، تتصاعد التوترات، وتُزرع بذور الانفجار الإقليمي. إن حرمان الناس من الغذاء والدواء ليس مجرد سياسة عدوانية، بل هو تهديد مباشر للأمن الإنساني، وجرس إنذار للضمير العالمي بأن قطاع غزة قد يتحول إلى مقبرة جماعية بصمت العالم وتقاعسه.

وفي هذا السياق، دعت الدكتورة جادو المجتمع الدولي إلى كسر حاجز الصمت والتواطؤ، والانتقال من الإدانة اللفظية إلى المواقف العملية. وشددت على ضرورة أن يتحرك القانون الدولي، وأن تبادر الدول، لا سيما الأوروبية، إلى تقديم دعاوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، بتهم ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، ومخالفة اتفاقيات جنيف، التي تحظر استهداف المدنيين ومنع الإغاثة عنهم.

وأكدت أن الوقت قد حان لعزل إسرائيل دبلوماسيًا، ومحاسبتها على كل هذه الانتهاكات. وأضافت أن استمرار التعامل معها كدولة عادية رغم خرقها المتكرر للقوانين الدولية يشجعها على الاستمرار في القمع والعدوان، ويمنحها غطاءً زائفًا للاستمرار في ممارساتها غير القانونية. فمن غير المقبول أن تُستهدف مبادرات مدنية سلمية وأن يتم توقيف دبلوماسيين ونشطاء بوحشية لمجرد أنهم حاولوا إيصال الغذاء والدواء لشعب محاصر.

واختتمت جادو تصريحها بالتأكيد على أن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل مأساة أخلاقية وامتحان صعب لضمير العالم. والمطلوب اليوم ليس فقط الإغاثة، بل العدالة. العدالة التي تعيد للشعوب كرامتها، وللقانون الدولي هيبته، وللإنسانية قيمتها. وأضافت: "آن الأوان ألا تكون غزة اختبارًا لصبر الضحايا، بل لصحوة الضمائر".

خرق جديد للقانون الدولي

من جانبه، قال المحلل السياسي محمد العروقي، رئيس تحرير موقع “أوكرانيا اليوم”،  وهو من أصول فلسطينية، إن إسرائيل تثبت مرة أخرى عدم التزامها بالقانون الدولي، وتُصرّ على التصرف كدولة فوق المحاسبة، متكئة على صمت دولي مشلول ومحابات سياسية تمنحها غطاءً لممارساتها، وأكد أن استيلاء الجيش الإسرائيلي على سفينة "مادلين" الإنسانية، المتجهة إلى قطاع غزة، يُعد خرقًا صارخًا للتشريعات الدولية، خاصة أنها كانت في المياه الدولية لحظة اعتراضها، وتحمل على متنها نشطاء سلام ومساعدات إنسانية، لا أسلحة ولا معدات عسكرية.

وأشار العروقي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن هذه السفينة الصغيرة لم تكن سوى رمز إنساني، محاولة شجاعة لكسر الحصار الخانق المفروض على أكثر من 2.1 مليون فلسطيني في قطاع غزة، والذين يعيشون تحت القصف والحصار والمجاعة، في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. وأضاف أن ما يحصل في غزة يُنقل يوميًا عبر وسائل الإعلام العربية والعالمية، ومع ذلك، لم يُقابل بموقف حاسم من المجتمع الدولي، ما يعزز شعور إسرائيل بأنها بمنأى عن العقاب، مهما بلغت فداحة جرائمها.

وأوضح أن "مادلين" ليست إلا بداية، وأن هناك نية لتكرار هذه المحاولات الإنسانية بشكل أوسع، عبر إرسال قوافل بحرية كبرى، وسفن محمّلة بكميات ضخمة من المساعدات الغذائية والطبية، مؤكداً أن هذه المبادرات لا تملك طابعًا عدائيًا، بل تستمد مشروعيتها من القانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف، التي تضمن الحق في تقديم المساعدة للمدنيين في زمن النزاعات المسلحة.

وتابع العروقي، بالقول إن إسرائيل، رغم درايتها بحساسية الوضع، اختارت الاستيلاء على السفينة بطريقة تراعي الشكليات لتجنّب ردود فعل دولية، إلا أن بعض المصادر كشفت عن خلافات داخلية بين المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل بشأن توقيت وطريقة اعتراض السفينة، ما يؤكد وجود ارتباك في التعاطي مع هذه المبادرات التي تحرج إسرائيل أمام الرأي العام العالمي.

وأكد أن هذا التصرف لن يمر بصمت، بل قد يُشكّل بداية لتحركات مدنية وسياسية أوسع، حيث إن استمرار انتهاك الحريات الإنسانية ومنع المساعدات يشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والدولي، ويزيد من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، داعيًا المجتمع الدولي إلى عدم الاكتفاء بالشجب، بل اتخاذ خطوات قانونية عبر محكمة العدل الدولية، وتفعيل أدوات المحاسبة لردع إسرائيل عن التمادي في انتهاكاتها.

وختم العروقي، تصريحه بأن التراخي الدولي، خاصة من الدول الكبرى، يُعدّ تواطؤًا غير مباشر، وأن استمرار هذه السياسة قد يُنتج انفجارًا شعبيًا وحقوقيًا في العالم، حيث تتزايد الأصوات المطالبة بكسر الحصار وإنهاء المعاناة المستمرة في غزة، مشيرًا إلى أن صمت العالم لم يعد مقبولًا أمام ما وصفه بـ"المذبحة المتواصلة في وضح النهار"، داعيًا إلى دعم الحملات الإنسانية القادمة بكل السبل الممكنة، وعدم ترك قطاع غزة لمصيره المحتوم.

 



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية