رئيس منظمة سام: العدالة في اليمن مختطفة والسجون تحولت إلى مقابر لمعارضي الحوثيين (حوار)

رئيس منظمة سام: العدالة في اليمن مختطفة والسجون تحولت إلى مقابر لمعارضي الحوثيين (حوار)
توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات

في اليمن، لم تعد الانتهاكات مجرد أرقام في تقارير، بل واقعاً يومياً يعيشه صحفيون ونساء وأطفال وسط صمت دولي مقلق، ويكشف الحقوقي توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات، في حواره مع "جسور بوست"، عن الوجه الأخطر للصراع.

تحدث الحميدي عن العديد من القضايا المهمة، بداية من القضاء المسيّس، إلى تجنيد قسري للأطفال، وسجون سرية، ومحاولات ممنهجة لإسكات كل صوت مستقل، وشهادة جريئة من قلب بلد يحاول الحقوقيون فيه التمسك بالحقيقة رغم كل محاولات الطمس والقمع.

فإلى نص الحوار:

في ضوء مصادرة ميليشيا الحوثي أصولاً وممتلكات منظمة رعاية الأطفال في مناطق سيطرتها، كيف تصفون التحديات التي تواجهونها في تنفيذ مهامكم الحقوقية؟

ما قامت به ميليشيا الحوثي من مصادرة لمقرات وأصول منظمة رعاية الأطفال عمل مدان، وقد أصدرنا في منظمة سام بيان إدانة، حيث يمثل هذا التصرف مؤشرا بالغ الخطورة على حجم التهديد الذي يواجه العمل الإنساني والحقوقي في اليمن، والذي يمكن تصنيفه باللون الأحمر منذ سنوات، هذه الانتهاكات لا تعوق فقط عمليات التوثيق والرصد، بل تضرب في الصميم جوهر العمل الحقوقي القائم على الحياد والاستقلال، حين تُستهدف منظمات دولية بمكانة “رعاية الأطفال” فذلك لا يراد منه فقط مصادرة ممتلكاتها، بل رسالة ترهيب كل جهة تفكر في العمل باستقلالية، محلية كانت أو دولية، الأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تخلق بيئة يسودها الإفلات من العقاب، وتُضعف ثقة الضحايا بالعدالة، وتمنع توثيق الجرائم بالشكل الكافي، وهذا ينعكس سلبًا على جهودنا في تقديم ملفات موثقة للهيئات الدولية، أو الدفع باتجاه المساءلة والمحاسبة.

وبصفتنا منظمة حقوقية، سنواصل أداء رسالتنا في الدفاع عن الضحايا، وتوثيق الحقيقة، رغم كل العراقيل، وسنبقي أعيننا مفتوحة على كل محاولة لإسكات صوت الضحية أو إخضاع القانون لقوة السلاح.

تتلقون بلاغات عن انتهاكات تعرض لها صحفيون.. ما أبرز تلك الانتهاكات؟ وكيف يمكن حماية الصحفيين ومحاسبة المعتدين؟

نعم، نحن تابعنا الانتهاكات بحق الصحفيين منذ الانقلاب في سبتمبر 2014 وبشكل متواصل نتلقى بلاغات صحفيين ومؤسسات إعلامية يتعرضون لانتهاكات جسيمة، ونصدر بيانات بصورة مستمرة، وجعلنا الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون جزءاً من تقرير منظمة سام السنوي، فالانتهاكات التي يتعرض بعض الصحفيين تعد جرائم مُكتملة الأركان ضد حرية الصحافة، وتتنافى مع الدستور اليمني، وتخالف بشكل صارخ كل المواثيق الدولية المتعلقة بحرية التعبير والرأي.

أبرز هذه الانتهاكات تشمل الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب داخل أماكن الاحتجاز، اقتحام مقرات إعلامية، مصادرة المعدات الصحفية، حجب المواقع الإلكترونية، وملاحقة الصحفيين عبر القضاء غير المستقل أو عبر أدوات القمع الأمني، كما وثقنا حالات إعدام خارج إطار القانون لصحفيين لمجرد آرائهم، فضلًا عن حملات تحريضية وتشويه إعلامي تسبق أو تواكب تلك الانتهاكات، في عام 2020 أصدرنا تقريرا موسعا شمل أكثر من 1200 انتهاك ضد الصحفيين بعنوان "مهنة خيره". 

والمؤسف أن هذه الانتهاكات تُرتكب من قبل أطراف متعددة في النزاع، وهو ما يجعل الصحفيين في اليمن من أكثر الفئات هشاشة وعرضة للاستهداف، في ظل غياب تام لمنظومة الحماية، وتفكك مؤسسات الدولة، واستغلال النزاع كذريعة لتصفية الحسابات مع الأصوات المستقلة.

وما الأسباب التي تضخم مشكلة حريات الصحفيين في اليمن؟ وما رؤيتك للآليات التي من خلالها يمكن حمايتهم؟

عملية حماية الصحفيين ومحاسبة المعتدين عليها جملة من العقبات البنيوية والسياسية المعقدة، يأتي في مقدمتها غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الفاعلة، التي غالبًا ما تكون هي نفسها مسؤولة عن الانتهاكات، مما يجعل من غير الممكن توقع أي التزام حقيقي بمحاسبة المتورطين، إلى جانب ذلك، يعاني القضاء من حالة انهيار مؤسسي وغياب الاستقلالية والنزاهة، الأمر الذي يُفقد الضحايا حقهم في التقاضي العادل.

كما أن تفشي ثقافة الإفلات من العقاب أسهم في ترسيخ بيئة عدائية تجاه الصحافة، حيث لا تتم ملاحقة أو محاسبة المعتدين، ما يشجع على تكرار الانتهاكات، يضاف إلى ذلك الخوف المستمر والتهديدات المباشرة التي يتعرض لها الصحفيون، والتي تمنع كثيرين منهم من الإبلاغ أو طلب الحماية أو حتى توثيق ما يتعرضون له، وفي ظل هذا الواقع، تُفاقم هشاشة البنية النقابية وغياب الأطر المهنية الفاعلة من ضعف آليات الدفاع عن الصحفيين، وتجعلهم أكثر عرضة للعزلة والاستهداف دون غطاء حقيقي يحميهم.

نحن نؤمن أن حماية الصحفيين ليست فقط التزاما أخلاقيا وقانونيا، بل ضرورة لبقاء المسار الديمقراطي حيا وفاعلا في اليمن، ولهذا نواصل عملنا في الرصد والتوثيق والمناصرة، ونطالب بشكل واضح المجتمع الدولي والآليات الأممية بلعب دور أقوى في الضغط من أجل إيقاف هذه الانتهاكات، وضمان المحاسبة، وتأمين بيئة آمنة للعمل الصحفي في اليمن.

كيف ترون استخدام القضاء كأداة قمع سياسي واقتصادي؟ وما انعكاسات ذلك على واقع العدالة وحقوق الإنسان في اليمن؟

نحن نرى أن فقدان القضاء استقلاليته يمثل أحد أخطر التحولات التي عرفها اليمن خلال سنوات الصراع، حيث أسهم انقسام المؤسسة القضائية الى استقطاب حاد في ساحات القضاء لصالح كل طرف، وربما ما تقوم به المحكمة الجزائية المتخصصة التابعة لجماعة الحوثي يجسد هذا الانحدار والانقسام المؤسسي بوضوح شديد حيث تحولت المحكمة من منصة للعدالة إلى أداة قمع سياسي واقتصادي، تستخدم لتصفية الخصوم، وتكميم الأفواه، ومصادرة الممتلكات، حيث رصدنا صدور أكثر من ٥٢٠ حكما بالإعدام ضد الخصوم ومصادرة ممتلكاتهم. 

ولا نتحدث هنا عن تجاوزات فردية أو أخطاء إجرائية، بل عن منهجية منظمة، تقوم على إصدار أحكام باطلة تفتقر لأبسط ضمانات المحاكمة العادلة، من حضور المحامي، إلى علنية الجلسات، إلى حياد القاضي. في كثير من الحالات، تُنتزع الاعترافات تحت التعذيب، وتُصدر الأحكام بناءً على ملفات ملفقة من قبل أجهزة أمنية تابعة للجماعة، دون أي رقابة أو مساءلة.

الأخطر من ذلك هو استخدام هذه المحكمة كغطاء قانوني لمصادرة أموال وممتلكات رجال أعمال وشركات خاصة، تحت ذرائع فضفاضة كـ”التعاون مع العدوان” أو “الإضرار بالاقتصاد الوطني”، وهذه الممارسات لا تقتصر على المجال السياسي، بل تمتد لتُصيب البنية الاقتصادية في مقتل، ما يسهم في ترسيخ مناخ النهب المنظم وتجريف القطاع الخاص، لصالح نخبة صغيرة تدير الاقتصاد تحت غطاء “أحكام قضائية”.

وما النتائج المنعكسة على العدالة وحقوق الانسان في اليمن بسبب هذه القضية الشائكة؟

الانعكاسات على واقع العدالة وحقوق الإنسان كارثية، فقد تحول القضاء من ملاذ للمظلومين إلى أداة بيد الظالم، وهو ما يدفع الناس لفقدان الثقة الكاملة بأي مسار قضائي أو قانوني، ويعزز مناخ الإفلات من العقاب، ويجعل من إعادة بناء منظومة العدالة لاحقا مهمة بالغة الصعوبة، لذلك نحن في منظمتنا نؤكد أن استقلال القضاء يجب أن يكون أحد المحاور الأساسية لأي تسوية سياسية قادمة، وأنه لا يمكن تحقيق سلام حقيقي أو انتقال ديمقراطي دون إعادة الاعتبار للمؤسسة القضائية وتحريرها من قبضة الأطراف المتحاربة، وعلى رأسها جماعة الحوثي.

هل ترون أن هناك استهدافًا ممنهجًا للنساء في اليمن؟ وكيف يمكن حماية النساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي؟

النساء في اليمن يتعرضن لاستهداف ممنهج ومتزايد، يتخذ أشكالا متعددة من الانتهاك، سواء من خلال العنف المباشر أو عبر سياسات التهميش والإقصاء والوصم الاجتماعي، هذا الاستهداف ليس عارضا أو فرديا، بل يُمارس ضمن سياق أمني واجتماعي وسياسي يكرّس التمييز ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب، وقد أصدرنا في "سام" تقارير متعددة منها "ماذا بقى لنا" تقرير يوثق اعتقال النساء وتعذيبهن في سجون ميليشيا الحوثي، وتقرير آخر "النساء 5 سنوات من الحرب" يوثق انتهاكات متعددة ضد النساء، إضافة إلى "قيود تمييزية" يوثق القيود التي فرضتها ميليشيا الحوثي على حرية المرأة في اليمن، وتقارير متعددة بمناسبة الأيام الدولية لمناصرة المرأة.

وهناك معاناة نفسية ومادية بسبب قسوة الحرب، وأزمة الجوع، والتهميش السياسي، والأخطر من ذلك أن هذه الانتهاكات تتم وسط تغذية مستمرة لخطاب ديني تجاه النساء، تُسهم فيه بعض وسائل الإعلام وخطابات دينية متشددة، تبرر العنف أو تُسهم في صناعته، ما يعمق من أزمة الثقافة المجتمعية تجاه حقوق المرأة ويُصعّب من معركة التغيير.

هذه الانتهاكات المتكررة بحق النساء تحمل دلالات خطيرة على أكثر من مستوى، فهي تسعى أولًا إلى إقصاء المرأة من الفضاء العام، وتوجيه رسالة مفادها أن مشاركتها في الشأن العام محفوفة بالخطر ومرفوضة إن لم تكن تحت السيطرة. كما أن استخدام العنف اللفظي والجسدي ضد النساء المحتجات يُعبّر عن أدوات سلطوية تستخدم الجندر كسلاح سياسي، وهو تطور بالغ الخطورة في منظومة القمع.

قضايا مثل الاحتجاز والإخفاء القسري تظل حاضرة بقوة في المشهد اليمني.. برأيكم، ما القضية الحقوقية الأكثر تعقيدًا اليوم؟ ولماذا؟

يمكنني القول إن الإخفاء القسري والاحتجاز غير القانوني تظل من أكثر القضايا الحقوقية تعقيدًا وخطورة في المشهد اليمني، حيث تحولت إلى أداة من أدوات الانتقام السياسي من الخصوم، وتتداخل بقضايا اجتماعية ونفسية للأسر والاطفال وحرمان كثير من الحقوق للضحية.

هناك قضية أخرى متعلقة بالسجون غير القانونية والإخفاء القسري وقد أصدرنا العديد من التقارير مثل "الغيبة الطويلة" يوثق الإخفاء القسري، "أشد العذاب" وهو تقرير قصصي يوثق معاناة التعذيب في السجون وتقرير آخر “سنوات الجحيم” عن التعذيب. 

ولابد من صحوة للأطراف وتفعيل الإفراج للكل مقابل الكل فهو بوابة العبور الي الحل السياسي وبناء الثقة الاجتماعية.

يعدّ التجنيد القسري للأطفال من أكثر الملفات الحقوقية حساسية وخطورة.. كيف ترون هذه الظاهرة؟ وهل ثمة جهود فعلية تُبذل لإنهائها؟

ظاهرة التجنيد القسري للأطفال تمثل واحدة من أخطر وأبشع الانتهاكات التي نشهدها على الأرض، وتشكل أرق إنساني كبير، حيث نرى أطفال بعمر الزهور، ورأس المال اليمني يرمي وقود لحرب لا ينتفع منها سوي تجار الحروب، وهذه القضية أصبحت عبء من حيث حجمها المتصاعد أو من حيث آثارها النفسية والاجتماعية والإنسانية بعيدة المدى، وهي لا تمثل مجرد انتهاك لحقوق الطفل، بل هي اعتداء مباشر على المستقبل، وعلى النسيج الأخلاقي والقانوني لأي مجتمع.

لقد رصدنا، في تقارير متعددة، توسعا ممنهجا في عمليات تجنيد الأطفال خاصة من قبل جماعة الحوثي، التي أنشأت معسكرات خاصة ووضعت برامج تعبئة أيديولوجية تستهدف الفئات العمرية الصغيرة، بما في ذلك طلاب المدارس ودور الأيتام والمراكز الصيفية. بعض الأطفال تم تجنيدهم في سن التاسعة، وتم الزج بهم في جبهات القتال، دون أي اعتبار لحياتهم أو لحقوقهم الأساسية، وقد رصدنا ذلك في عدد من التقارير مثل تقرير " عسكرة الطفولة" اصدرنا بالشراكة مع المرصد الأورومتوسطي، وتقرير "مازالوا في الجبهة" وتقرير ثالث " أعيدوا لي ولدي " وكلها تتضمن الانتهاكات التي ذكرناها. 

اعتقد الواقع اليمني معقد ويساهم في الإفلات من العقاب عن هذه الجرائم، لكن نعمل علي إعداد قائمة بمرتكبي الجرائم، لدينا يقين أن العقاب سيأتي يوما، ولا يمكن لليمن العبور نحن مستقبل بدون مصالحة تتضمن العقاب لمرتكبي الجرائم، فما نحتاجه اليوم ليس فقط إدانة هذه الجريمة، بل تفعيل أدوات مساءلة دولية حقيقية، وربط ملف التجنيد بملف العدالة الانتقالية والمحاسبة الجنائية، إلى جانب دعم المجتمعات المحلية ورفع الوعي بخطورة الزجّ بالأطفال في النزاعات، و يجب أن يدرك الجميع أن من يُسلّح الأطفال، أو يُرسلهم إلى الموت، لا يبني مشروعًا وطنيًا بل يرتكب جريمة لا تسقط بالتقادم.

كيف تقيمون مستقبل الملف الحقوقي في اليمن، في ظل الأزمات الممتدة والانتهاكات المستمرة؟ وهل ترى أملا في إحداث إصلاحات حقوقية؟

من الصعب تقييم الحكم القاطع حول مستقبل الملف الحقوقي في اليمن حيث يمر الملف بمنعطف حرج ومعقد، فالأزمات الممتدة والانتهاكات المستمرة من مختلف الأطراف خلقت بيئة خانقة للعمل الحقوقي، تتسم بانهيار مؤسسات الدولة، وهيمنة جماعات مسلحة ترفض المحاسبة، إلى جانب تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب، وتزايد القيود على حرية الحركة والتوثيق، والملاحقات الأمنية والإعلامية للمدافعين عن الحقوق، فضلًا عن تراجع الدعم الدولي وغياب الإرادة السياسية الحقيقية لحماية الفضاء الحقوقي.

ورغم هذا الواقع المثقل بالتحديات، فإننا لا نرى أن الأفق قد أغلق بالكامل وشديد السواد، لا يزال هناك بصيص أمل في إحداث اختراقات حقوقية ممكنة، يصنعه النشطاء في الميدان، ووعي الناس، حيث أثمرت الجهود طوال السنوات الماضية إلى ارتفاع الصوت الحقوقي الشعبي، ويمكن ملاحظة ذلك في السوشيال ميديا عند حدوث أي انتهاك، ومع ذلك الامر يتطلب مزيد من الجهد المضاعف والصبر الطويل،كما أن استمرار التوثيق والنضال رغم التهديدات، يجعل من الملف حامل قوي حتى سياسيا ومجتمعيا ويؤكد، العدالة ليست ترفا بل شرطٌ لأي سلام مستدام.

هناك نقطة مهمة تتعلق بالمجتمع الدولي، حيث أن أي تحركانطلاقا من حركة المجتمع الحقوقي يترك ذات أثر تراكمي، سواء كان عبر تقارير أممية أو مواقف منظمات دولية أو مبادرات تضامن عابرة للحدود، ودائما نؤكد في لقاءاتنا أن العدالة لا تُبنى دفعة واحدة، بل عبر تراكم الوعي، والصمود، والإصرار على توثيق الحقيقة، وتوفير الحد الأدنى من الحماية للضحايا والمدافعين.

ونؤكد أن الملف الحقوقي في اليمن لن يسقط، طالما هناك من لا يزال يؤمن به ويعمل لأجله. ولتحميل هذا الأمل إلى واقع، نحتاج إلى دعم دولي صادق، وبيئة عمل آمنة، وشراكة حقيقية مع المجتمع اليمني، بعيدًا عن التسييس أو التوظيف الانتقائي للحقوق. هذه الشروط هي ما قد تساعدنا من إعادة بناء الثقة، واستعادة مسار العدالة في بلد أنهكته الحروب والانقسامات.

في ظل تصاعد الانتهاكات وتعدد أطراف الصراع، كيف تقيّمون استجابة المجتمع الدولي للملف الحقوقي اليمني؟ وهل ترون أنها كافية، أم هناك قصور في آليات الضغط والمساءلة؟

أرى أن استجابة المجتمع الدولي للملف الحقوقي في اليمن لا تزال غير كافية ولا توازي حجم الانتهاكات المرتكبة من مختلف أطراف الصراع. ورغم صدور بعض البيانات والتقارير، إلا أن التعامل لا يزال انتقائيا، وتغلب عليه الحسابات السياسية على حساب المبادئ الحقوقية، خصوصًا بعد إغلاق آلية فريق الخبراء الدوليين البارزين، ما شكل تراجعا خطيرا في مسار المساءلة الدولية. 

كما أن هناك قصور واضح في آليات الضغط، حيث لم تفعل أدوات العقاب أو المساءلة الفعلية ضد المسؤولين عن الجرائم، ما يعزز مناخ الإفلات من العقاب يشجع على تكرار الانتهاكات. نحن بحاجة إلى استجابة أكثر جدية تضع الضحايا في قلب الأولوية، وتعمل على حماية الفضاء المدني، وتُعيد الثقة بالعدالة الدولية كجزء أساسي من أي عملية سلام مستدام في اليمن، وقد طرحنا ذلك في كل اجتماعنا مع المعنيين على مستوى المقررين الخواص ومندوبي الدول في محلي حقوق الإنسان. 

كيف تتعامل منظمتكم مع مسألة حماية الضحايا والشهود أثناء التوثيق؟ وهل تواجهون تهديدات أو عراقيل في جمع الأدلة؟

مسألة حماية الضحايا والشهود تمثل أولوية قصوى في منهجيتنا، نحن نلتزم بمعايير صارمة لحماية مصادرنا، تبدأ من السرية الكاملة لهويات الشهود، مرورا باستخدام وسائل تواصل مؤمنة، وانتهاء بعدم نشر أي معلومة قد تؤدي إلى تعريضهم للخطر المباشر أو غير المباشر، ندرك تماما الوضع الأمني المعقد، واحتكار وسائل الاتصال من قبل ميليشيا الحوثي. 

لدينا ادلة تحكم هذه الجزئية ضمن سياسة المنظمة، وندرب فرقنا على التعامل بحذر بالغ أثناء المقابلات، ونعمل قدر الإمكان من خلال أطراف موثوقة ميدانيا. كما أننا نمتنع عن إجراء مقابلات مباشرة المناطق شديدة الخطورة، ونستعيضعنها بوسائل بديلة مثل الاتصالات المؤمنة، أو اللقاءات في أماكن آمنة خارج مناطق التهديد.

أما بخصوص العراقيل، فهي كثيرة ومعقدة، نواجه تهديدات حقيقية، ليس فقط من أطراف النزاع، بل أحيانا من سلطات الأمر الواقع التي تعتبر التوثيق نوعًا من “التجسس” أو “التحريض”. كما تُفرض علينا قيود على الحركة، والتهديد كمد باعتقال العاملين، حيث صدرت في فترة توجيهات غير مكتوبه باعتقال العاملين او الذين يساعدون مع المنظمة، في بعض المناطق وتراقب نشاطاتنا بشكل دائم. ورغم ذلك، نواصل العمل بالتنسيق مع شركائنا المحليين، ونستخدم أدوات تحقق رقمية وتقنية لتجاوز هذه القيود قدر الإمكان، مع التزام أخلاقي كامل بسلامة الضحايا.

كون منظمتكم “سام” من أبرز الجهات الحقوقية في اليمن، ما الأدوات والآليات التي تعتمدونها لمعالجة القضايا الحقوقية المزمنة؟

نحن في منظمة “سام” نعمل جاهدين على ان نكون بجانب الضحايا، ورفعنا شعار للمنظمة " نحن لسنا محايدين نحن في صف الضحايا" ولذا نعمل على توظيف منظومة متكاملة لمعالجة القضايا الحقوقية المزمنة، ترتكز على الرصد والتوثيق الميداني وفق المعايير الدولية محايدة بغض النظر عن الجهة الفاعلة، وإعداد تقارير وتحقيقات نوعية مدعومة بالتحليل القانوني، وتقديمها إلى الهيئات الأممية والمؤسسات المعنية. كما نعتمد آليات المناصرة الدولية، ونعمل على بناء تحالفات مع منظمات محلية ودولية لتعزيز حضور قضايا اليمن في المنصات الحقوقية، مع تركيز خاص على القضايا المنسية وضحايا الانتهاكات الجسيمة.

وفي مواجهة الملفات المتراكمة، اعتمدنا خطة مرحلية تقسم هذه الملفات حسب النطاق الزمني والجغرافي، وتدار من قبل فرق مختصة تجمع بين الرصد والتحليل والمتابعة القانونية، كما نسعى مع شركائنا في معهد دي تي ورابطة أمهات المختطفين على تهيئة المجتمع للعدالة الانتقالية، وبناء سردية موازية للضحايا والمجتمع المدني، والعمل مستقبلا على التأسيس وذاكرة وطنية من خلال أرشيف قانوني للانتهاكات، تمهيدا مسار عدالة انتقالية شامل يضمن عدم الإفلات من العقاب، ويكرس لعدالة قائمة على المحاسبة والإنصاف والكرامة الإنسانية.

أخيرا ما هي أكثر القضايا التي تم تجاهلها إعلاميًا أو حقوقيًا، رغم خطورتها؟

هناك العديد من القضايا التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي، لكن من أبرزها قضية الاحتجاز في السجون السرية ومراكز الاحتجاز غير الرسمية، خاصة في مناطق سيطرة الحوثي، وبعض مناطق سيطرة الشرعية والأطراف المنضوية تحتها، حيث تمارس انتهاكات مروعة بحق المعتقلين، بما في ذلك التعذيب، الإخفاء القسري، والحرمان من المحاكمة العادلة، في ظل صمت دولي لافت، وكذلك، قضية تجنيد الأطفال من قبل مختلف الأطراف، لا سيما الحوثيين، ما زالت تُتناول بشكل سطحي، رغم أنها من أخطر ما يُرتكب بحق الأجيال القادمة، إذ يُختطف الطفولة من المدارس إلى الجبهات، ويتم غسل أدمغة الأطفال بمناهج أيديولوجية خطيرة.

ومن القضايا الأخرى التي غيبت اعلاميا أيضا الانتهاكات الاقتصادية الممنهجة، مثل نهب المرتبات، وفرض الجبايات، والتمييز في تقديم الخدمات، وهي جرائم تمس الحياة اليومية للمواطن، لكنها تعامل غالبا كملفات ثانوية، رغم أنها تندرج ضمن ما يسمى بـ”القتل البطيء”، وقضايا البيوت المفجرة ونهب الأراضي والرواتب. 

إننا نعمل بجد لرفع هذه القضايا إلى الواجهة، وندعو الإعلام والمنظمات الدولية إلى كسر دائرة الصمت، والانتصار للضحايا بصرف النظر عن الجغرافيا أو الجهة المنتهِكة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية