جرائم وانتهاكات الحوثي.. اغتيال الشيخ حنتوس نموذج لاضطهاد ديني ضد المخالفين فكرياً في اليمن
جرائم وانتهاكات الحوثي.. اغتيال الشيخ حنتوس نموذج لاضطهاد ديني ضد المخالفين فكرياً في اليمن
في زاوية نائية من الجغرافيا اليمنية، وتحديدًا في قرية المعذّب بمديرية السلفية، غرب محافظة ريمة، تردد صدى الرصاص لا ليعلن عن معركة بين جيشين، بل ليغتال بصمت حارق صوتًا كان يُرتّل كتاب الله في محراب القرية منذ عقود.
صوت الشيخ صالح حنتوس، الرجل السبعيني الذي قضى عمره بين صفحات القرآن وبين أبناء قريته يُعلّمهم السكينة، بات اليوم شهيدًا في مشهد تقشعر له الأبدان، وتضيق معه فسحة الأمل في يمن مزقته الطائفية وشظايا الصراع طويل الأمد.
الشيخ حنتوس، لم يكن زعيمًا سياسيًا، ولا قائداً عسكريًا، بل كان ببساطة رمزًا دينيًا متجذرًا في وجدانه الزاهد، ومثّل لآلاف اليمنيين صورة العالم الورع، المعتكف في كتاب الله، والمنحاز للفكرة السلمية في زمن الاحتراب لكنه في نظر الحوثيين كان "خارج الصف"، متمردًا على سرديتهم، ومعترضًا على طمس الهوية الدينية الجامعة لمصلحة أيديولوجيا طائفية استعلائية، ولذا كان الهدف.
بحسب بيان هيئة علماء المسلمين في العراق، فإن "مسلحين حوثيين حاصروا منزل الشيخ حنتوس ومسجده، قبل أن يقتحموهما، مستخدمين الأسلحة الرشاشة والقذائف، ويغتالوه داخل محراب المسجد"، في جريمة حملت من الدلالات أكثر مما حملت من الرصاص. فقد أُعدم صوتٌ لا يعلو فوقه غير الأذان، صوتٌ رفض أن تُختزل العقيدة في شعارٍ حزبي أو تتحول منابر الدعوة إلى منابر اصطفاف طائفي. لقد اغتيل الشيخ، لا لأنه حمل بندقية، بل لأنه لم يحمل رايتهم.
وفي اليمن، حيث صار الدم يختلط بالمداد، بات اغتيال العلماء والدعاة ممن لا ينضوون تحت عباءة الهيمنة الأيديولوجية للحوثيين أمرًا متكرراً حدّ الاعتياد. فبحسب تقرير "التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان" الصادر في يونيو 2025، قُتل أكثر من 78 داعيةً وخطيب مسجد منذ عام 2015، وتعرض المئات للاعتقال القسري، فيما تحولت المساجد من بيوت لله إلى غرف بثّ عقائدي أحادي اللون، لا يحتمل اختلاف النغمة.
انتهاكات متعددة
الشيخ حنتوس لم يكن استثناءً، بل حلقة دامية في سلسلة إعادة "حوثنة" المجتمع، ورأت الهيئة أن الحادثة ليست جريمة معزولة، بل جزء من مشروع واسع يُعيد تشكيل البنية الدينية والاجتماعية، عبر تكتيك مدروس يزرع الانقسام ويهندس الولاء من المهد إلى المنبر. عملية تنزع التنوع من نسيج اليمن، وتنسج مكانه ثوبًا طائفيًا ضيقًا لا يسع كل أهله.
الهجوم الذي انتهى باغتياله لم يكن مجرد رصاص وركام، بل مشهد رمادي يتجسد فيه الليل بشكل كامل. أحد الناجين من القرية، تحدث لوسائل إعلام محلية واصفًا تلك الليلة بـ"الليل الذي تنكّر للنجوم"، حيث اقتيد الشيوخ والشباب مكبلين، وأُجبروا على ترديد شعارات لا تشبههم ولا تشبه ترابهم، فيما السلاح يرسم حدود ما يمكن أن يُقال أو يُفكَّر فيه.
هذه المأساة تسير بالتوازي مع مساعٍ أعمق، حيث لم تسلم حتى المناهج الدراسية في اليمن من إعادة الصياغة، فبحسب منظمة "سام للحقوق والحريات"، غيرت جماعة الحوثي أكثر من 45% من مناهج التعليم الديني الأساسي، وفرضت إغلاق أكثر من 170 مركزًا تعليمياً أهليًا عام 2024 وحده، منها كتاتيب قرآنية عمرها عشرات السنين. التعليم لم يعد وسيلة للارتقاء، بل أداة لقولبة العقول، وتدجين الوعي منذ الصف الأول.
المساجد كذلك باتت خاضعة لاختبار الولاء، كما توثق "هيومن رايتس ووتش"، التي سجلت 232 حالة اعتقال تعسفي لأئمة وخطباء خلال العامين الأخيرين فقط، خصوصًا في ذمار وإب وصعدة، وهي مناطق تشهد تصعيدًا ممنهجًا في محو التعدد المذهبي. صار الإمام لا يختبر في الفقه، بل في المواقف؛ لا يُسأل عن علمه، بل عن انتمائه.
ولا يقتصر الأمر على القتل والاعتقال، بل يتعداه إلى تدمير الرمزية وتفكيك المرجعيات، تقرير "التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان" لعام 2024 أشار إلى تسجيل 178 حالة اغتيال واستهداف لعناصر دينية بارزة، بينهم شخصيات تُعد مرجعية محلية لعقود. هؤلاء لم يُستهدفوا لأفعالهم، بل لكونهم "رموزًا غير مُرخّصة" من السلطة الطائفية الجديدة.
إعادة هيكلة المجتمع لا تتوقف عند البُعد الديني، بل تطول الاقتصاد والمعيشة اليومية. فوفقًا لتقرير صادر عن "أوكسفام" في مايو 2025، فإن 61% من برامج الإغاثة التي تُشرف عليها سلطات محلية موالية للحوثيين تُوزّع وفق معيار الولاء المذهبي والسياسي، ما حوّل رغيف الخبز إلى مكافأة على الطاعة، وحرمانه إلى أداة كسر.
هذه البيئة لم تعد فقط مختنقة، بل مصابة بوباء الإقصاء. وبيانات "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية" توضح أن الحوثيين غيّروا ما نسبته 52% من مضمون المناهج الدينية، ما يعني أن جيلًا كاملاً يُعاد برمجته على مفاهيم دينية موحدة المصدر، متعددة الغايات، تُنتج مواطنًا لا يناقش بل يُردد.
جرائم وانتهاكات حقوقية
موازاة القمع الديني والاجتماعي، يتعرض المجال الحقوقي في اليمن لاجتثاث ممنهج، حيث تُحوّل الجماعة الحوثية القانون إلى سلاح بيد السلطة لا أداة لحماية المواطنين. فبحسب التقرير الدوري للمفوضية السامية لحقوق الإنسان الصادر في مارس 2025، فإن مناطق سيطرة الحوثيين سجّلت أعلى معدلات الاعتقال خارج نطاق القانون في اليمن، بواقع 3,147 حالة اعتقال تعسفي خلال العام 2024 وحده، بينهم 428 ناشطًا مدنيًا وحقوقيًا، و112 امرأة، في انتهاك فاضح لاتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وتُظهر شهادات موثّقة من ضحايا سابقين أن بعض المعتقلين احتُجزوا في أماكن سرية لعدة أشهر، دون توجيه تهم رسمية، وأُجبروا على توقيع اعترافات تحت التعذيب. هذا الانحراف الممنهج في آليات الاعتقال ليس مجرد تجاوز فردي، بل يعكس بنية سلطة تُصمّم أدواتها الأمنية لخلق حالة من الخوف الدائم، حيث يغدو المواطن مراقَبًا في صلاته، في درسه، في مائدته وحتى في صمته.
ويُضاف إلى ذلك القمع الثقافي والإعلامي، إذ وثّقت نقابة الصحفيين اليمنيين خلال العامين الماضيين 97 حالة انتهاك بحق صحفيين في مناطق سيطرة الحوثيين، بينها 11 حالة اختفاء قسري، و18 محاكمة بتهم فضفاضة مثل "التحريض على الفتنة" أو "نشر أفكار مغلوطة"، بينما تستمر الجماعة في حجب أكثر من 200 موقع إلكتروني منذ عام 2017 وحتى اليوم. تموت الحقيقة في الظل، وتُستبدل بسرديات مُعلّبة تُفرض كحقيقة رسمية، فيما يُحاصر الرأي الحر كما يُحاصر الهواء في زنزانة بلا نافذة.
وعلى مستوى الحريات الدينية، فإن الوضع لم يعد يطول المسلمين من غير أتباع الفكر الحوثي فحسب، بل طال حتى الأقليات الدينية الهشة في اليمن، مثل البهائيين. فوفقًا لمنظمة العفو الدولية، اعتُقل 17 شخصًا من أبناء الطائفة البهائية في صنعاء خلال حملة واحدة فقط في مايو 2023، بعضهم لا يزال في الحبس حتى الآن دون محاكمة، وسط تجاهل تام لنداءات الأمم المتحدة المطالبة بالإفراج عنهم. هذه الحملة تُمثل الوجه الآخر للمشروع الطائفي، حيث لا مكان حتى للاعتقاد الفردي، فكل معتقد لا يُباركه السلاح يُصنَّف خيانة.
اقتصاديًا، لا يمكن فصل الانهيار المعيشي عن هذا الهيكل السلطوي القسري. فقد أشار تقرير برنامج الغذاء العالمي لشهر أبريل 2025 إلى أن أكثر من 18.2 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، أكثر من 65% منهم يقيمون في مناطق تحت سيطرة الحوثيين. لكن المأساة لا تكمن فقط في ندرة الغذاء، بل في خضوعه لمنظومة توزيع مشروطة بالولاء. شهادات ميدانية جمعتها منظمة "مواطنة" اليمنية تشير إلى حالات طرد جماعي لأسر من قوائم المستفيدين بسبب تحفظهم على سياسات الجماعة، أو مجرد الاشتباه في انتماءات سياسية أو مذهبية مخالفة.
أما المرأة، فهي الحاضر الغائب في خطاب الحوثيين، والغائب الحاضر في السجون. فحسب تقرير صادر عن "مبادرة عدالة للنساء" في ديسمبر 2024، رُصدت 213 حالة احتجاز لنساء في سجون سرية خلال عام واحد فقط، تراوحت التهم بين "الاختلاط"، و"مخالفة الأعراف الدينية"، و"التجسس"، في حين وُثّقت 49 حالة تعذيب مباشر، منها حالات عنف جنسي مارسه عناصر أمنية حوثية، دون أن يُقدَّم أي من الجناة للمساءلة. تحوّل الجسد الأنثوي من كيان يجب أن يُحترم، إلى ميدان تُصفّى فيه الحسابات الرمزية مع المجتمع الرافض للهيمنة.
هذه المنظومة بمجملها لا تُبنى على السيطرة العسكرية وحدها، بل على شبكة متكاملة من الترهيب العقائدي، والتحكم بالمعاش، ومحو التنوع، وتحويل الدولة إلى ظل لمشروع ديني مغلق. وحتى النسيج القبلي، الذي كان تاريخيًا أحد خطوط التوازن اليمني، لم يسلم من التفكيك. فقد وثّقت مؤسسة "دراسات يمنية" في تقريرها السنوي للعام 2024 تفكك 137 تحالفًا قبليًا تقليديًا في محافظات عمران والجوف وصعدة، تحت ضغط الاستقطاب الإجباري، والتهديدات، وشراء الولاءات بالمال أو السلاح أو المساعدات.
صمت المجتمع الدولي يغذي العنف الطائفي
اتهم الباحث الحقوقي والدبلوماسي اليمني السابق أبو بكر باذيب المجتمع الدولي بفقدان الحياد في ملف السلام في اليمن، بل والتحول إلى جزء من المشكلة عبر صمته المتواطئ تجاه الجماعات المسلحة، وعلى رأسها ميليشيا الحوثي.
وفي تصريح خاص لـ"جسور بوست"، قال باذيب: "من المؤسف أن نلاحظ أن بعض مؤسسات المجتمع الدولي، بل وحتى المبعوث الأممي نفسه، لا يمارسون أي ضغط حقيقي على هذه الجماعات، بل يشاركون -بشكل مباشر أو ضمني- في إدامة وجودها عبر مواقف متراخية أو تفاهمات خفية".
وعد هذا التراخي أدى إلى تفاقم العنف الطائفي والديني في اليمن، بدلًا من احتوائه.
فكر إقصائي و"حق إلهي" في الحكم
أشار باذيب إلى أن ميليشيا الحوثي تمكّنت من فرض سيطرتها على ملايين اليمنيين، لا بسبب قوتها الذاتية، بل بسبب الغطاء الدولي الضمني. وأكد أن المناطق الخاضعة للحوثيين باتت تُدار بعقلية كهنوتية إقصائية، ترفع شعار "الحكم الإلهي" لزعيم الجماعة، وتمارس القمع على من يرفض هذه الفكرة.
وقال: "من لا يعترف بـ"الحق الإلهي" للحكم يُقصى، يُهدّد، وتُصادَر حريته، وأحيانًا يُغتال جسديًا".
المشروع الحوثي.. امتداد للأئمة وكهنوت الماضي
اعتبر باذيب أن ما يحدث في اليمن ليس مجرد استبداد سياسي، بل مشروع طائفي عنصري، يقوم على تمايز عرقي واضح، يفرض سلطة جماعة فوق الدولة، وفوق الناس، بل وفوق أي نقد أو محاسبة.
وقال: "الميليشيا لا تبني دولة، بل تفرض سطوة عصبة ترى نفسها مقدّسة، وتتصرف وكأن اليمن مزرعة خاصة، تحكمها باسم الإله".
اتهم باذيب الحوثيين بأنهم جزء من مشروع إقليمي تقوده إيران، يعتمد على شعار المقاومة لتبرير القتل الداخلي، وقال: "هذه الجماعات -في اليمن ولبنان وسوريا والعراق- رفعت شعار فلسطين، لكنها لم تطلق رصاصة واحدة لنصرتها، بل استخدمت الشعار لقمع شعوبها وقتل خصومها".
وأكد أن كل من ينتقد الحوثي يُتهم بـ"العداء لغزة" في عملية تلاعب سياسي مكشوفة، لا علاقة لها بالمقاومة، ولا بالقضية الفلسطينية.
وأوضح أن ما يُروّج له الحوثي كدعم لغزة، ما هو إلا استغلال سياسي رخيص لأوجاع الشعوب، فيما الواقع يُظهر أن الضربات الإسرائيلية طالت أذرع إيران دون أي رد حقيقي.
اليمنيون وحدهم يدفعون الثمن
أكدت الناشطة الحقوقية اليمنية إبها عقيل أن جماعة الحوثي تحولت من ميليشيا متمردة كانت تُعامل كتهديد أمني محدود، إلى سلطة مطلقة بفعل دعم إقليمي ودولي مبطّن، مشيرة إلى أن هذا التحول جرى تحت غطاء "محاربة الإخوان والقاعدة".
وأضافت في تصريحات لـ"جسور بوست": "وجد الحوثيون أنفسهم منبوذين محليًا، لكن مدعومين دوليًا، فتسللوا إلى السلطة عبر تفاهمات خفية، ثم فرضوا أنفسهم حكامًا فوق القانون وفوق الناس".
سلطة الرعب بدلًا من إدارة الحكم
وصفت عقيل سلطة الحوثيين بأنها "أشد أنظمة القمع التي عرفها اليمن المعاصر"، مؤكدة أن الجماعة تعمل بمنطق أمني فوقي، يعتمد على إدارة الرعب لا الحكم.
وقالت: "السلطة لا تُمارَس عبر الشرعية أو القبول، بل عبر خلق ضحية في كل قرية، من شيوخ ومثقفين وأكاديميين وصحفيين، يتم استبدالهم بموالين بلا كفاءة، لضمان الولاء الكامل".
القمع باسم الدين والمقاومة
شددت عقيل على أن أخطر ما تمارسه الجماعة هو الربط الخادع بين الدين والسلطة، عبر استغلال قضايا عربية كبرى، لتبرير العنف الداخلي.
وأضافت: "الحوثيون يستخدمون العاطفة الدينية كدرع قمعي. كل معارض يُتهم بالخيانة أو بالعمالة للصهاينة، في عملية ممنهجة لتصفية كل صوت حر".
وتطرّقت إلى جريمة اغتيال الشيخ محمد حنتوس، مؤكدة أنها حلقة من سلسلة طويلة، لكن التفاعل العربي الواسع معها جاء نتيجة تغيّر المزاج الشعبي العربي بعد أحداث غزة وتهديد الحوثيين للممرات البحرية.
تسويق خارجي مزدوج.. وقمع داخلي شامل
أوضحت عقيل أن الحوثيين نجحوا خارجيًا في تقديم أنفسهم بوجهين، أحدهما موجه للغرب كـ"خصم للإخوان"، والآخر لليسار العربي كـ"حركة مقاومة للإمبريالية"، بينما في الداخل، يفرضون سلطتهم بالسلاح، ويُمارسون إذلالًا وإقصاءً ممنهجًا بحق اليمنيين.
واختتمت بقولها: "اليمنيون ليسوا حقل تجارب لمشاريع طائفية، ولا عبيدًا في مزرعة إقليمية. آن الأوان أن يُحاسب القاتل، وأن يُسمَع صوت المظلوم، مهما كانت الشعارات التي يرفعها".