"المدينة الإنسانية".. مخطط إسرائيلي جديد يُهدد سكان غزة بالنفي الجماعي
لعزل 600 ألف فلسطيني جنوب القطاع
بأسماء براقة وخطابات إنسانية، تروج إسرائيل لخطة جديدة أطلقها وزير الدفاع يسرائيل كاتس، تقضي ببناء ما سُميت بـ"المدينة الإنسانية" على أنقاض مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بهدف نقل مئات الآلاف من السكان إليها بعد تهجيرهم قسرياً.
وبينما تدعي تل أبيب أن المشروع يأتي في إطار الحلول الإنسانية المؤقتة، يرى حقوقيون وخبراء دوليون أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإضفاء طابع قانوني على جريمة تهجير ممنهجة، تمهد لفصل دائم بين الفلسطينيين وأراضيهم، وتُشكل خرقاً فادحاً للقانون الدولي.
وفي تصريحات إعلامية أدلى بها يوم 7 يوليو الجاري، أوضح كاتس أن "المدينة الإنسانية" المقترحة ستبنى بعد شهرين من وقف القتال في غزة، وتهدف إلى استيعاب ما يصل إلى 600 ألف فلسطيني، "باستثناء عناصر الجماعات المسلحة"، على حد تعبيره.
وستقام المدينة بين محور فيلادلفيا وطريق موراغ، وهي مناطق خاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة.
ووفقًا لتقارير هيئة البث الإسرائيلية والقناة 12، فإن الخطة تتضمن آليات تفتيش صارمة عند مداخل المدينة، ومنع سكانها من المغادرة، في مشهد وصفه حقوقيون بـ"الاعتقال الجماعي في معسكر مفتوح".
كما ستعهد عمليات توزيع الغذاء والمساعدات لمنظمات دولية، في حين ستبقى القوات الإسرائيلية على أطراف المدينة لضمان "الأمن من بعد"، بحسب المصادر الإسرائيلية.
عقبة في وجه التهدئة
وقالت مصادر فلسطينية مشاركة في مفاوضات وقف إطلاق النار بالدوحة، في تصريحات لشبكة BBC أن الخطة أثارت قلق وفد حركة "حماس"، وشكلت عقبة جديدة أمام التوصل إلى اتفاق هدنة، فيما عبرت الحركة عن رفضها القاطع لأي مشروع يعيد هندسة الواقع السكاني والسياسي في القطاع تحت غطاء "المساعدات الإنسانية".
ولاقى المخطط رفضًا واسعًا على المستوى الدولي. وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، إذ وصف المشروع بأنه "يتناقض مع المسار الحالي لوقف إطلاق النار"، بينما اعتبر وزير شؤون الشرق الأوسط، هاميش فالكونر، أن المدينة المقترحة تُقوّض فرص الحل السياسي وتمثّل مساسًا بوحدة الأراضي الفلسطينية.
وفي السياق ذاته، وصفت البارونة هيلينا كينيدي، المحامية البريطانية المعروفة في مجال حقوق الإنسان، المشروع بأنه "أقرب إلى معسكر اعتقال"، مؤكدة أن الإجراءات الإسرائيلية الحالية ترقى إلى "إبادة جماعية".
أما المحامي الحقوقي الإسرائيلي ميكائيل سفارد، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، قائلاً إن المشروع "يشكل جريمة ضد الإنسانية، وخطوة نحو ترحيل جماعي لسكان القطاع".
تمثل خرقاً للقانون الدولي
ووصف البروفيسور يوفال شاني، رئيس دائرة القانون الدولي العام بالجامعة العبرية، الخطة بأنها "غير قانونية في ظاهرها"، موضحاً أن الترحيل القسري داخل منطقة قتال، أو منع السكان من الخروج، يمثل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني.
وأضاف أن محاولة استخدام المساعدات كوسيلة لدفع الناس للانتقال إلى المدينة يعد نوعًا من "الإكراه غير المشروع"، وقد يُصنف جريمةً حرب في بعض أبعاده.
وبينما تصر إسرائيل على عرض خطتها في إطار "التحسّن الإنساني"، يُحذّر مراقبون من أنها تمهد فعليًا لنزع غزة من سياقها الجغرافي والتاريخي، وتحويل سكانها إلى كتلة بشرية معزولة، تحت رقابة مشددة، ودون أفق سياسي.
وتأتي هذه الخطة، ضمن سلسلة إجراءات تصب في استراتيجية أوسع تتجاهل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتهدف إلى إفراغ القطاع من مضمونه السياسي والديمغرافي.
مشروع إسرائيل الجديد
ورغم الحديث الإسرائيلي عن "مدينة إنسانية"، يرى معظم الخبراء أن ما يُطرح على أنقاض رفح ليس سوى مشروع لإعادة هندسة قطاع غزة ديمغرافيًا، بما يفتح الباب لترحيل واسع النطاق، ويكرس واقعًا جديدًا تحت مظلة إنسانية زائفة.
وفي ظل هذا الواقع، تبقى المخاوف مشروعة من أن تتحول "المدينة" إلى نموذج محدث للنكبة، لكن هذه المرة بإدارة عصرية وأسوار إلكترونية.
وتتصاعد التحذيرات الحقوقية والدبلوماسية من مغبة التمادي في سياسة التهجير القسري، حيث يرى حقوقيون وخبراء دوليون ومحللون سياسيون أن المخطط ليس سوى سجن جماعي مغلق، ينذر بإعادة تشكيل ديموغرافي قسري، ويمهد لتصفية ما تبقّى من ملامح القضية الفلسطينية.
وفي موقف حاسم، حذّر المفوض العام لوكالة "الأونروا"، فيليب لازاريني، الأربعاء، ما وصفه بـ"نية إسرائيل تنفيذ عملية نزوح قسري واسعة النطاق للفلسطينيين في غزة باتجاه رفح".
وقال لازاريني في منشور عبر حسابه على منصة "إكس": "سيؤدي هذا إلى إنشاء معسكرات مكتظة ضخمة على الحدود مع مصر... ويحرم الفلسطينيين من أي أمل في مستقبل أفضل في وطنهم"، مضيفًا بأنه لا يمكن الصمت أو التواطؤ مع هذا النزوح القسري الواسع النطاق.
كما وصفت تمارا الرفاعي، مديرة العلاقات الخارجية والإعلام في الأونروا، المشروع بأنه "إهانة لمبدأ الإنسانية"، مشيرة إلى أن تجميع 600 ألف فلسطيني داخل منطقة مغلقة وتحت رقابة عسكرية سيحول غزة إلى "السجن المفتوح الأكثر اكتظاظًا ورقابة في العالم".
تحذيرات قانونية ودولية
بدوره وصف الدكتور أحمد غازي، المدير الإقليمي في المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان، هذا المخطط الإسرائيلي بأنه "سجن كبير خارج إطار القانون الدولي، ولا يخضع لأي رقابة دولية".
وأشار غازي، في تصريح لـ"جسور بوست" إلى أن "الخطة تُعيد إلى الأذهان معسكرات الاحتلال الإيطالي في ليبيا"، معتبراً أن هذه المشاريع لا تنتمي للعمل الإنساني، بل تمثل تهديداً للاستقرار الإقليمي، خصوصاً لكونها تجاور الحدود المصرية.
وأضاف غازي أن ما يحدث في غزة يعد وصمة عار في جبين المجتمع الدولي، متهمًا الولايات المتحدة بازدواجية المعايير وتجاهل جرائم ترتكب أمام العالم.
وأكد طارق أبو زينب، المحلل المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، أن ما يُسمى بـ"المدينة الإنسانية" هو في الحقيقة مشروع احتجاز جماعي، يهدف إلى عزل مئات الآلاف من الفلسطينيين في جيب مغلق دون أفق سياسي أو ضمانات للعودة.
وأضاف أبو زينب في تصريح لـ"جسور بوست": "إسرائيل تُعيد إنتاج حصار غزة ولكن باسم جديد وبوابات محكمة. هذه النسخة المطورة من "الملاذ الآمن" تعني كارثة إنسانية قادمة"، مشيراً إلى أن تحويل المدنيين إلى رهائن، والتعامل معهم على أنهم مشكلة أمنية، لن يؤدي إلا إلى تفجير الوضع في غزة والضفة ولبنان والمنطقة بأكملها.
تجميل وجه الاحتلال
ومن جانبه، يرى الدكتور سعيد صادق، الأكاديمي المتخصص في الشؤون الأمريكية والشرق الأوسط، أن ما تفعله إسرائيل هو "مجرد حملة علاقات عامة لتجميل وجه الاحتلال وتبرئة نفسها من جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة".
وأكد صادق، في تصريح لـ"جسور بوست" أن هذا النوع من المشاريع "ليس له علاقة بالحلول، بل يعمّق الأزمات ويُعزز منطق القوة على حساب حقوق الإنسان".
وحذر من أن المخطط جزء من سياسة إسرائيلية ممنهجة هدفها "التخلص من الفلسطينيين باعتبارهم شعباً غير مرغوب فيه"، وهو ما يعيد سردية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" إلى الواجهة، مشيرًا إلى أن مصر سترفض أي مشروع يهدد أمنها القومي أو يُقام على حدودها دون توافق واضح وشرعية دولية.
ولا تزال الوقائع والتفاصيل تكشف عن نموذج جديد من التهجير القسري الجماعي، الذي لا يحترم القانون الدولي ولا يحظى بأي غطاء شرعي، حيث يأتي هذا المشروع، في سياق متوتر وتحت رعاية جزئية من أطراف غربية، الأمر الذي ينذر بتوسيع رقعة المعاناة بدلًا من تقليصها، ويضع المدنيين الفلسطينيين في مواجهة مفتوحة مع مستقبل مجهول داخل سجن جماعي مغلق وبلا عودة.