عشرات المنازل الفلسطينية مهددة بالهدم.. إسرائيل تتجاوز القانون الدولي الإنساني

عشرات المنازل الفلسطينية مهددة بالهدم.. إسرائيل تتجاوز القانون الدولي الإنساني
آثار العدوان الإسرائيلي في فلسطين - أرشيف

بالقرب من أطراف مدينة طولكرم، حيث يلامس الحلم الحطام، ويعانق الشوق الجدران المثقوبة، هناك مخيم لاجئين لم يعد يُعرف باسمه، بل بلقبٍ جديد يتردد على ألسنة النازحين: "مخيم الأشباح"، في هذا الركن الفلسطيني، لا تُقرَع الأبواب بل تُهدم، ولا تُفتح النوافذ إلا على مشهدٍ من الأسى، تتقاطع فيه الخسارات الشخصية مع تهشيم جماعي لمعنى الوطن والمأوى.

في الساعات القليلة التي سمح فيها الجيش الإسرائيلي بعودة مؤقتة لبعض النازحين إلى منازلهم، لم تكن العودة كافية لبعث الحياة، بل كانت أقرب إلى وداع أخير. العودة هنا ليست فعلاً اختيارياً، بل صدمة وجودية من دخل منهم وجد أثاثه ممزقًا، وصور أطفاله ممزقة، والهواء معبقًا برائحة الرصاص والغبار.

ومن بين 104 عائلات صدر بحقهم قرار الهدم، سُمح فقط لـ54 منها بالدخول المؤقت للمخيم. وفقًا لإفادة مركز "عدالة" القانوني الذي تقدم بالتماس للمحكمة العليا الإسرائيلية، أُصدر أمر عسكري بالهدم الجماعي لـ104 بنايات في 30 يونيو/حزيران 2025، ضمن ما سمّته إسرائيل "ضرورات أمنية وعسكرية بحتة". 

ومنحت المحكمة العليا جيش الاحتلال مهلة حتى 2 سبتمبرالمقبل للرد، بعد أن أصدرت أمرًا احترازيًا بتجميد القرار. لكن التجميد ليس عدلاً، بل كما وصفته المحامية سهاد بشارة، المديرة القانونية في مركز عدالة: "الخطوة المطلوبة ليست التجميد المؤقت، بل الإلغاء الكامل لهذه الأوامر غير القانونية".

عملية "السور الحديدي"

ويبرر الجيش الإسرائيلي قرارات الهدم ضمن ما يسميه عملية "السور الحديدي"؛ وهي حملة عسكرية مستمرة منذ أوائل 2023، تستهدف مناطق محددة في شمال الضفة الغربية، خصوصًا جنين وطولكرم ومخيماتها، بزعم القضاء على البنية التحتية للمجموعات المسلحة. 

في تقرير حديث لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) بتاريخ 10 يونيو الماضي، وُثِّق أن الجيش الإسرائيلي نفذ خلال أسبوعين فقط عمليات هدم طالت أكثر من 104 بنايات سكنية في محيط مخيم نور شمس بطولكرم، ما أدى إلى نزوح 985 شخصًا، بينهم 427 طفلًا. 

هذه الممارسات تمثل انتهاكًا مباشرًا للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر تدمير الممتلكات في الأراضي المحتلة إلا لأسباب تتعلق بـ"الضرورة العسكرية المطلقة"، وهو توصيف فضفاض تُحدده السلطة المحتلة ذاتها، دون رقابة مستقلة، وتتعارض مع المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن لكل فرد الحق في السكن والعيش الكريم، فضلًا عن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي يكرّس الحق في المسكن المناسب.

وفي هذا السياق، لا يبدو الحديث عن "أمن" مجرد ذريعة، بل سياسة مستمرة لتفكيك الحاضنة الرمزية للاجئين. منظمة العفو الدولية، في تقريرها لعام 2024، وصفت هذه الإجراءات بأنها "جزء من نظام فصل عنصري وتمييز منهجي ضد الفلسطينيين"، وأكدت أن الهدم في المخيمات الفلسطينية يتجاوز المسوغات الأمنية، ليطال أساسًا بنية الحياة اليومية، ويقوض رمزية المخيم كونه موقعاً للهوية السياسية والوجدانية للاجئين.

قانونيًا، أسفر طعن السكان أمام المحاكم الإسرائيلية بقرارات الهدم عن تجميد مؤقت لبعض العمليات، لكن منظمات مثل "عدالة" أكدت أن هذه التجميدات "لا تعني الإلغاء"، بل غالبًا ما تُستخدم كمهلة لإعادة ترتيب القرار بصياغة قانونية أكثر صلابة. الحقوقيون يعتبرون هذه الاستراتيجية شكلًا من أشكال "الشرعنة الهادئة"، حيث يتم امتصاص الغضب الشعبي والدولي دون وقف المسار التنفيذي للهدم.

مخطط استيطاني ممنهج

شدّد الدكتور سيد مكاوي، أستاذ العلوم السياسية، على أن السياسات الإسرائيلية الراهنة في الضفة الغربية، وعلى رأسها قرارات الهدم الجماعي في مخيمات اللاجئين، تشكّل خرقًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وانتهاكًا مباشراً لحقوق الإنسان التي كفلتها الاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية جنيف الرابعة. 

وبيّن الدكتور مكاوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذه القرارات لا تندرج إلا تحت خانة العقوبات الجماعية، وهو أمر يحرّمه القانون الدولي بشكل قاطع على أي قوة احتلال، مشيراً إلى أن الاستيلاء على الأراضي بالقوة يُعد انتهاكًا فاضحًا، يضع المسؤولين الإسرائيليين تحت طائلة المحاسبة أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لا سيما في ضوء فتوى محكمة العدل الصادرة في يوليو 2024، والتي عدت استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يتعارض تمامًا مع مبادئ القانون الدولي، داعية إلى الوقف الفوري للأنشطة الاستيطانية وإجلاء المستوطنين.

وأضاف مكاوي، أن الواقع على الأرض يكشف تحولًا مقلقًا في سلوك الاحتلال، حيث بات الجيش الإسرائيلي يُستخدم أداةً تنفيذية لخدمة المستوطنين المسلحين الذين نفذوا، منذ أكتوبر 2023، أكثر من 12,000 اعتداء ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وأسفرت هذه السياسات عن تهجير قسري لأكثر من 45,000 فلسطيني، وإصابة ما يزيد على 4,000، واعتقال أكثر من 7,000 آخرين، في مشهد يعكس حالة من الانفلات الاستيطاني المنظم والمدعوم من أعلى المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل.

وتطرق الدكتور مكاوي إلى ما وصفه بـ"الخطة السرية" التي انكشفت العام الماضي، والتي تقضي عمليًا بضم المنطقة "ج" من الضفة الغربية، عبر تحويل البؤر الاستيطانية الـ169 إلى مستوطنات رسمية مربوطة بشبكات بنى تحتية إسرائيلية، في خطوة تُعبّر عن سياسة الأمر الواقع لابتلاع الأراضي الفلسطينية. 

وأشار إلى أن هذه الخطة تم تنفيذها بتنسيق مباشر بين وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش ومكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، حيث تم تعيين شخصيات محسوبة على سموتريتش في مناصب مفصلية داخل "الإدارة المدنية" التابعة لوزارة الدفاع، وهي الجهة الفعلية التي تُدير شؤون الضفة الغربية.

وفي ما يخص الآثار النفسية والاجتماعية لسياسات الهدم والتهجير، أكد الدكتور مكاوي، على أن العودة المؤقتة إلى منازل مدمرة لا تشكل حلاً إنسانياً، بل تفاقم من حجم المعاناة، لا سيما لدى الأطفال والنساء، حيث تؤدي إلى مشاعر العجز والانكسار، وتخلق أجيالاً مشحونة بالغضب والخوف واللايقين. وأشار إلى أن هذه الظروف تُعد بيئة خصبة لتدهور الصحة النفسية وتآكل النسيج الاجتماعي، ما يُهدد مستقبل الاستقرار داخل المجتمع الفلسطيني.

وختم الدكتور مكاوي تصريحه بالتأكيد على مسؤولية الدول العربية في مواجهة هذه المخططات، من خلال دعم الفلسطينيين اقتصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وقانونيًا، مشددًا على أن السكوت عن هذه الانتهاكات سيفتح الباب أمام مزيد من التصعيد، ويهدد بإشعال المنطقة بأكملها، وأكد أن الصمود الفلسطيني في وجه هذه السياسات هو رسالة واضحة بأن الشعب الفلسطيني لن يقبل التهجير مرة أخرى، مهما كانت الكلفة.

تصعيد الهدم والتهجير

قالت الخبيرة الحقوقية والباحثة المتخصصة في الشأن الفلسطيني–الإسرائيلي، إيمان بخيت، إنّ الضفة الغربية تشهد عمليات عسكرية موسعة ومتواصلة بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، في سياق مخطط واضح لتفريغ الأرض من سكانها عبر التهجير القسري وتوسيع رقعة الاستيطان، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي الإنساني ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

وأكدت بخيت في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن العمليات التي تنفذها القوات الإسرائيلية، بما في ذلك الهدم المنهجي للمنازل والبنية التحتية، خاصة في مخيم طولكرم ومخيمات لاجئين أخرى في شمالي الضفة، تُعد امتدادًا لسياسة قديمة تتبعها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لكنها باتت أكثر فجاجة منذ اندلاع الحرب على غزة. إذ استغل الاحتلال انشغال العالم بما يجري في القطاع ليصعّد ممارساته القمعية في الضفة دون رادع دولي فعّال، معتبرًا أن الاهتمام الإعلامي والسياسي العالمي المنصب على القطاع يمنحه غطاءً إضافيًا لمواصلة هذه الانتهاكات.

وأشارت إلى أن عمليات الهدم الجارية لا تستند إلى أي مبرر قانوني، بل تقوم على إرادة عسكرية أحادية تحاول فرض الأمر الواقع من خلال الإخضاع والاقتلاع، لا سيما في المناطق المكتظة بالسكان، مثل مخيمات اللاجئين التي طالما كانت رمزية وطنية في الوعي الفلسطيني. وأضافت أن ما يجري في الضفة ما هو إلا محاولة لإعادة إنتاج النكبة بأساليب حديثة وتحت مسمى "أوامر عسكرية".

ورغم صدور قرار احترازي عن المحكمة العليا الإسرائيلية يقضي بتجميد أوامر الهدم الجماعي في مخيم طولكرم حتى الثاني من سبتمبر المقبل، فإن بخيت ترى أن هذا القرار ليس أكثر من استجابة شكلية لضغوط منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، وعلى رأسها مركز "عدالة" الذي قدّم التماسًا باسم 11 من سكان المخيم، اعتراضًا على أمرٍ بهدم جماعي صدر عن القيادة المركزية للجيش في 30 يونيو، وكان من المزمع تنفيذه خلال 72 ساعة فقط.

واعتبرت أن هذا القرار القضائي لا يعكس تغييرًا جوهريًا في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل مجرد محاولة لتخفيف حدة الانتقادات الدولية. وأعربت عن شكّها في استمرار تجميد العمليات، مؤكدة أن النمط السائد يشير إلى أنها ستُستأنف حالما تخف وتيرة الضغط، نظرًا إلى كون عمليات الهدم جزءًا من مشروع سياسي استراتيجي وليس مجرد رد فعل أمني عابر.

وأكدت بخيت، على أن هذه الممارسات تُعد انتهاكًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تدمير ممتلكات المدنيين إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى، وهو ما لا ينطبق على غالبية الحالات في الضفة. كما أن تدمير منازل اللاجئين، ومنعهم من العودة إليها، لا ينتهك فقط حقهم في المأوى، بل يُفاقم معاناتهم النفسية، خصوصًا لدى الأطفال الذين يتربون على الخوف الدائم من التهجير، ويكبرون وسط فقدان للأمان، وتفتت في النسيج الاجتماعي، وانهيار للبنى التحتية.

وشددت على أن إسرائيل تسوّق لذرائع أمنية لتبرير هذه الانتهاكات، لكنها ذرائع واهية لا تصمد أمام الحقيقة، إذ إن الجيش الإسرائيلي والمستوطنين هم من يبادرون بالعدوان، في حين يعيش سكان المخيمات تحت وطأة حصار دائم ومراقبة مشددة، وتضييق لا يترك مجالاً لأي حياة مدنية طبيعية.

واختتمت بخيت بالقول، إن ما يجري في الضفة الغربية هو حلقة من مخطط أكبر لتصفية القضية الفلسطينية عبر فرض وقائع ديموغرافية وجغرافية جديدة، وإن مسؤولية وقف هذه الجرائم تقع على عاتق المجتمع الدولي، الذي لا يملك ترف الصمت أو الانتظار، بل يجب أن يتحرك فورًا عبر أدوات قانونية ودبلوماسية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية