التهجير القسري.. سياسة أمر واقع أم فشل لمنظومة الحماية الدولية؟

أغلب الضحايا من الضعفاء والمهمشين

التهجير القسري.. سياسة أمر واقع أم فشل لمنظومة الحماية الدولية؟
النزوح القسري في غزة جراء الحرب

 

تُعد ظاهرة التهجير القسري، سواء كانت ناتجة عن صراعات مسلحة، أو كوارث طبيعية، أو مشاريع تنموية كبرى، أو سياسات تمييزية، إحدى أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدا في عصرنا، تتجاوز هذه الظاهرة كونها مجرد "نزوح سكاني" لتُصبح انتهاكًا صارخًا للحقوق الأساسية للإنسان، من الحق في السكن، إلى الحق في الأمن، والكرامة، والعيش الكريم، في مواجهة هذه الأزمة، تبرز المنظمات الأممية والدول الكبرى كلاعبين رئيسيين، يُفترض أن يكون لهما دور محوري في حماية المهجرين وتقديم المساعدة لهم، وفي الوقت نفسه، التعامل مع الدول التي تُخطط أو تُنفذ التهجير القسري. 

"جسور بوست" تتناول في هذا التقرير تلك الأزمة الحقوقية وكيفية تعامل هذه الأطراف مع خطط التهجير، في ظل الاستراتيجيات المعلنة والواقع العملي.

أرقام صادمة تكشف اتساع الكارثة

بحسب تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) الصادر نهاية عام 2024، بلغ عدد النازحين قسرًا حول العالم أكثر من 120 مليون شخص؛ وهو أعلى رقم يُسجَّل في تاريخ المنظمة منذ تأسيسها عام 1950.

ويُظهر التقرير أن النزاعات المسلحة، والمشاريع الاستيطانية، والتهجير العرقي، وإعادة رسم الخرائط الديمغرافية بفعل الحروب أو السياسات العنصرية، كانت الأسباب الأكثر شيوعًا وراء هذه الموجات.

مواقف المنظمات الأممية

تُشكل المنظمات الأممية، وفي مقدمتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR)، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، خط الدفاع الأول عن حقوق المهجرين، وتستند هذه المنظمات إلى مجموعة من المبادئ والقوانين الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمبادئ التوجيهية بشأن التشرد الداخلي.

عادةً ما تصدر المنظمات الأممية بيانات شديدة اللهجة تندد بخطط التهجير، لكنها تواجه قيودًا هيكلية تمنعها من التحرك المباشر لوقفها.

ففي تقرير حديث صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مارس 2025، أكّد المجلس أن “عمليات التهجير القسري تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الرابعة”، محذرًا من تفشي سياسات التغيير الديموغرافي في مناطق النزاع.

كما رصد التقرير محاولات بعض القوى الإقليمية فرض وقائع ديموغرافية جديدة تحت مظلة مشاريع التنمية أو خطط إعادة الإعمار، لكن المجلس اعترف صراحةً بعجزه عن ردع هذه الممارسات بسبب غياب آلية تنفيذية قوية.

وتتمثل استراتيجيات المنظمات الأممية في التعامل مع خطط التهجير في:

المناصرة القانونية والضغط الدبلوماسي: تُصدر هذه المنظمات بيانات إدانة قوية، وتُقدم تقارير دورية إلى مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، وتُمارس ضغوطًا دبلوماسية على الدول لوقف خطط التهجير القسري أو لضمان حقوق المهجرين.

المساعدة الإنسانية والحماية: تُقدم المساعدة الفورية للمهجرين، مثل المأوى، الغذاء، الماء، الرعاية الصحية، والمساعدة القانونية. كما تعمل على توفير الحماية للمدنيين في مناطق الصراع وتقليل مخاطر التهجير.

رصد وتوثيق الانتهاكات: تُجري تحقيقات مستقلة لتوثيق حالات التهجير القسري وتُصدر تقارير مفصلة تُسلط الضوء على المسؤولين عن هذه الممارسات.

بناء القدرات والدعم الفني: تُقدم المساعدة الفنية للدول لتطوير سياسات وتشريعات تحمي من التهجير القسري وتُعالج أسبابه الجذرية.

معوقات تواجه المنظمات الأممية أبرزها:

غياب آليات التنفيذ القسري: لا تملك هذه المنظمات سلطة فرض قراراتها على الدول ذات السيادة، وتعتمد فعاليتها بشكل كبير على الإرادة السياسية للدول الأعضاء.

التسييس والازدواجية في المعايير: غالبًا ما تُعيق المصالح السياسية للدول الكبرى إصدار قرارات قوية أو فرض عقوبات على الدول التي تُمارس التهجير القسري.

نقص التمويل: تُعاني العديد من البرامج الإنسانية من نقص حاد في التمويل، مما يُؤثر على قدرة المنظمات على تقديم المساعدة الكافية للمهجرين.

صمت الدول الكبرى.. مصالح تتجاوز حقوق الإنسان

على الجانب الآخر، تبدو مواقف الدول الكبرى مرتبطة بمصالحها الاستراتيجية أكثر من ارتباطها بالمبادئ الإنسانية، فغالبًا ما تكتفي هذه الدول بإصدار بيانات دبلوماسية فضفاضة تطالب بضبط النفس، بينما تحجم عن اتخاذ إجراءات عملية.

تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024 أكد أن بعض القوى الكبرى تغض الطرف عن التهجير القسري الذي تقوم به دول حليفة، أو حتى توفر لها الدعم العسكري والسياسي غير المباشر، بحجة “ضرورات الأمن القومي” أو “الحرب على الإرهاب”.

هذه الازدواجية تفتح الباب أمام انتقادات واسعة، خاصة عندما يتعلق الأمر بحماية المدنيين ومصير مئات آلاف الأسر التي تجد نفسها مشردة بلا مأوى.

تهجير تحت غطاء التنمية

أحد أخطر أشكال التهجير التي رصدتها المنظمات الحقوقية يتمثل في التهجير تحت مسمى التطوير العمراني أو مشروعات البنية التحتية.

تقرير منظمة العفو الدولية في أكتوبر 2024 وثّق حالات تهجير قسري في مناطق حضرية بإفريقيا وآسيا، حيث تم إخلاء آلاف العائلات لصالح مشروعات استثمارية كبرى دون توفير بدائل سكنية مناسبة أو تعويضات عادلة.

وترى المنظمة أن هذه السياسات تُمثل تهجيرًا مقننًا وتضرب في عمق الحق في السكن المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

خطط التهجير في سياق النزاعات المسلحة

في سياق النزاعات، غالبًا ما تُستخدم التهجير القسري كأداة استراتيجية لتغيير التركيبة السكانية أو إقامة مناطق أمنية عازلة.

تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالات النزوح الداخلي الصادر في سبتمبر 2024 حذّر من توثيق خطط تهجير مُمنهج في عدة مناطق نزاع، واعتبر ذلك انتهاكًا خطيرًا يرتقي إلى جريمة حرب.

لكن التقرير نفسه أقر بأن غياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى في مجلس الأمن حال دون إصدار قرارات مُلزمة لوقف هذه الخطط.

التهجير القسري في غزة

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في أكتوبر 2023، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في دائرة متواصلة من النزوح والتهجير القسري، في واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، فقد أجبرت الهجمات المكثفة واستهداف الأحياء السكنية ومرافق البنية التحتية المدنيين على الفرار نحو الجنوب المزدحم أصلًا، حيث تفتقر المخيمات والمراكز المؤقتة إلى أدنى مقومات الحياة. 

وتشير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن نحو 1.9 مليون شخص -أي ما يعادل قرابة 85% من سكان القطاع- باتوا نازحين داخليًا، بعضهم لأكثر من مرة بسبب استمرار العمليات العسكرية وتوسّع رقعة الدمار. 

وفي وقت تُحذر فيه منظمات حقوق الإنسان من أن هذا التهجير المتكرر يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي، يواجه المدنيون في غزة واقعًا مأساويًا يختزل معاناة جيل كامل محروم من الحق في السكن الآمن والعيش بكرامة، بينما يقف المجتمع الدولي عاجزًا أمام سياسات الترحيل القسري التي باتت تُمارَس كأداة استراتيجية على الأرض.

مواقف المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية

في مقابل صمت بعض الحكومات، لعبت المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني دورًا محوريًا في توثيق انتهاكات التهجير القسري ورفع الصوت دفاعًا عن الضحايا.

وأصدرت المنظمات الحقوقية الدولية ومنها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية ومنظمة مراقبة النزوح الداخلي (IDMC) عشرات التقارير المفصّلة، ودعت إلى فرض عقوبات على المسؤولين عن هذه الانتهاكات.

كما لجأت بعض المنظمات إلى المحاكم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، لمحاولة فتح تحقيقات في قضايا تهجير قسري بوصفها جرائم ضد الإنسانية.

حلول مطروحة بلا تنفيذ

رغم الاعتراف الواسع بخطورة التهجير القسري، تظل الحلول المطروحة في أغلبها توصيات غير ملزمة.

فقد دعا تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في 2023 إلى تشكيل لجان تحقيق مستقلة، وتقديم الدعم الإنساني الطارئ للمهجرين، وتعزيز المساءلة الدولية، لكن دون قرارات ملزمة أو إجراءات تنفيذية، تظل هذه التوصيات مجرد «مسكّنات» لا توقف نزيف المأساة.

ضحايا بلا صوت كافٍ

الأخطر في خطط التهجير أنها لا تنزع فقط حق الإنسان في الأرض والسكن، بل تمس أيضًا هويته الثقافية والاجتماعية وتدفعه نحو الهامش والفقر المدقع.

وغالبًا ما لا يجد الضحايا وسائل كافية لإيصال صوتهم، إذ يُحرمون حتى من حقهم في المشاركة في اتخاذ القرار حول مصير مجتمعاتهم.

في نهاية المطاف، يُطرح السؤال الجوهري: هل ستبقى خطط التهجير القسري مجرّد أرقام في تقارير أممية؟

الواقع أن تغيير هذه المعادلة يتطلب إرادة سياسية حقيقية لدى المجتمع الدولي، وإعادة الاعتبار لحقوق الإنسان بوصفها أولوية لا تقل أهمية عن المصالح الاستراتيجية.

ويبقى الأمل معقودًا على أن تتحول التقارير والتحذيرات والنداءات الحقوقية إلى خطوات ملموسة توقف نزيف التهجير القسري وتحمي ملايين البشر من فقدان بيوتهم وذكرياتهم وهويتهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية