العمل عن بُعد.. حرية مرنة أم عبودية رقمية؟

العمل عن بُعد.. حرية مرنة أم عبودية رقمية؟
العمل عن بعد

في عالم ما بعد الجائحة، تحوّل العمل عن بُعد من خيار بديل إلى واقع يومي لملايين البشر حول العالم، ما كان يُنظر إليه كعلامة على التقدم والمرونة، بات يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة العمل نفسه، وهل هو فعلاً يمنح الموظفين حرية غير مسبوقة، أم أنه يقودهم نحو شكل جديد من العبودية الرقمية؟.

ولم يكن مفهوم العمل عن بُعد وليد اللحظة، ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ظهرت مفاهيم مثل "العمل عن بعد" (Telecommuting) مع تطور تكنولوجيا الاتصالات، كان الهدف الأساسي هو تقليل الازدحام المروري وتوفير الطاقة، لكن التطور الحقيقي حدث مع ظهور الإنترنت الواسع النطاق في التسعينيات، وظهور أدوات التعاون الرقمي في الألفية الجديدة، ومع ذلك، ظلت هذه الممارسات مقتصرة على قطاعات معينة أو وظائف محددة.

الوباء محفّز للتغيير

في عام 2020، فرضت الجائحة على ملايين الموظفين حول العالم تجربة العمل من المنازل، وحسب تقرير منظمة العمل الدولية (ILO) الصادر عام 2021، انتقل نحو 557 مليون شخص إلى أنماط عمل مرنة أو عن بعد، شكلوا ما بين 17% إلى 20% من القوى العاملة في بعض الدول المتقدمة.

رأى كثيرون في ذلك ثورة إيجابية، حيث التخلص من أوقات التنقل الطويلة، مرونة في ساعات العمل، وبيئة عمل شخصية أكثر راحة، غير أن الواقع كشف جانبًا مظلمًا لم يكن في الحسبان.

وبينما بدا العمل عن بعد حرية جديدة، أشارت تقارير حقوقية إلى تزايد ساعات العمل غير المدفوعة، وتوسع الرقابة الرقمية، فقد حذر تقرير هيومن رايتس ووتش (2023) من لجوء شركات إلى استخدام برامج تتبع متقدمة لمراقبة الموظفين عبر تسجيل ضغطات لوحة المفاتيح، التقاط لقطات شاشة دورية، وحتى تفعيل كاميرات الويب دون علم العامل.

وفي دراسة لـ منظمة العمل الدولية (ILO) شملت 15 دولة أوروبية، تبيّن أن الموظفين عن بعد عملوا بمتوسط 48 ساعة أسبوعيًا مقارنةً بـ41 ساعة في مكاتبهم سابقًا.

بين الإنتاجية وحقوق الإنسان

تُظهر بعض البيانات أن العمل عن بعد أسهم في رفع الإنتاجية، فقد وجدت دراسة لشركة مايكروسوفت عام 2022 أن 87% من المديرين شعروا بزيادة أو استقرار الإنتاجية، لكن 49% من الموظفين أقرّوا بشعورهم بالإرهاق والضغط النفسي المتزايد.

ووصف خبراء حقوق الإنسان هذه الظاهرة بأنها عبودية رقمية ناعمة، حيث يبدوا الموظف حرًا، لكنه محاصر بالخوف من تقارير الأداء الرقمية والخوارزميات التي قد تقيّم عمله دون مراعاة للعوامل الإنسانية.

وحسب استطلاع لـ منظمة الصحة العالمية (2022)، ارتفعت معدلات القلق والاكتئاب بين العاملين عن بعد بنسبة 25%، و يعود السبب إلى العزلة الاجتماعية، ضبابية الحدود بين الحياة الخاصة والعمل، والشعور الدائم بالارتباط الرقمي.

ويحذر خبراء علم النفس من ظاهرة التعب الرقمي الناتجة عن الاجتماعات الافتراضية المتواصلة، والتي تزيد من الضغط النفسي أكثر مما تسببه الاجتماعات الواقعية.

كما حذر مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في تقريره لعام 2023 من أن العمل عن بُعد يمكن أن يؤدي إلى محو الخط الفاصل بين العمل والحياة الخاصة، ما يدفع الموظفين للعمل لساعات أطول دون تعويض إضافي أو فترات راحة كافية، وهذا قد ينتهك الحق في الراحة وتحديد ساعات العمل.

تفاوت عالمي

في الدول الغنية، غالبًا ما يقترن العمل عن بعد بإجراءات داعمة مثل مرونة الجداول وبرامج الصحة النفسية، بينما في كثير من دول الجنوب العالمي، يتحول العمل عن بعد إلى ذريعة لتقليل الأجور، أو استغلال العمال المستقلين دون تغطية اجتماعية.

تقرير الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC) أشار إلى انتشار المنصات الرقمية التي تعتمد على جيش من الفريلانسرز بأسعار منخفضة جدًا، دون عقود واضحة أو حماية قانونية.

ودعت منظمة العمل الدولية عام 2021 الحكومات لاعتماد قوانين الحق في قطع الاتصال كما فعلت فرنسا منذ عام 2017، لحماية الموظفين من رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل.

وأوصت تقارير منظمة العفو الدولية بوضع قيود صارمة على استخدام برامج المراقبة الرقمية، لضمان ألا تتحول إلى وسيلة قمعية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية