"حدود لا ترحم".. مصير مجهول لآلاف المرحلين قسرياً إلى أفغانستان
"حدود لا ترحم".. مصير مجهول لآلاف المرحلين قسرياً إلى أفغانستان
على امتداد الحدود الفاصلة بين إيران وأفغانستان، لا شيء يشبه الحياة. أطفال حفاة يركضون بين الخيام المهترئة، نساء يحملن الماء من برك طينية، وشبان بعيون يابسة يحاولون تذكُّر ما تركوه وراءهم. هنا، حيث ينتهي الوطن ولا تبدأ الرحمة، يواجه أكثر من 450 ألف أفغاني تم ترحيلهم مؤخرًا من إيران مصيرًا مفتوحًا على كل احتمالات الموت.
"كنت أعمل في مطعم صغير بطهران.. دخلوا فجأة، ضربوني، صرخوا في وجهي: "أنت لست إنسانًا، اخرج!‘"، يروي خليل، شاب أفغاني يبلغ من العمر 24 عامًا، جلس في ركن من خيمة ممزقة، يحتضن ابنته الصغيرة التي لم تتجاوز عامها الأول، "جاؤوا ليلاً، أخذوا كل شيء: المال، الهاتف، الوثائق.. وحتى كرامتي"، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم السبت.
منذ عقود، كانت الهجرة بالنسبة للأفغان خيارًا قاسيًا لكنه مفهوم، ولكنها لم تكن يومًا بهذا الشكل، هروب جماعي، تجريد قسري، وجوه تائهة على الطرقات، وطفولة تختنق في الحدود.. أصبح الخروج من البلاد ردّ فعل بيولوجيًا على البقاء؛ الغريزة الوحيدة التي لا تزال تعمل في أجساد أنهكتها الحرب، والجوع، والخذلان.
على مدار أسبوعين فقط، تقول التقارير إن السلطات الإيرانية قامت بترحيل مئات الآلاف من الأفغان، بعضهم من حاملي وثائق قانونية، وبعضهم ممن ولدوا في إيران ولم يعرفوا غيرها وطنًا، لم تُستثنَ النساء، ولا المرضى، ولا حتى من تزوّجوا إيرانيات، الجميع بات يُعامل كمُتسلل يجب طرده.
"ابني وُلد في شيراز، يتحدث الفارسية بطلاقة ولا يعرف كلمةً واحدة من البشتو"، تقول زهرة، وهي أم لثلاثة أطفال تُقيم الآن قرب نقطة حدودية قرب هرات، "رموه مثل كيس قمامة على الحدود، لا يعرف أفغانستان، ولا يملك فيها شيئًا. ماذا أفعل به الآن؟".
تاريخ بلا استراحة
لا تُعد هذه المأساة جديدة على الأفغان، فمنذ أحداث أبريل 1978، مرورًا بالاحتلال السوفيتي، والحروب الداخلية، وحكم طالبان الأول، ثم الغزو الأمريكي، لم تهدأ الهجرة يومًا، بل إنها تحولت إلى ما يشبه الطقس القومي.. كل جيل يهرب من حربه الخاصة.
لكن ما يحدث اليوم، هو أقرب إلى الطرد الجماعي من الحياة ذاتها، إذ لم تعد الحدود مجرد خطوط مرسومة على خرائط، بل أصبحت جدرانًا عازلة تفصل الإنسان عن حريته، وتفصل الطفل عن مدرسته، والمرأة عن منزلها، والشاب عن حلمه.
ولم تعد الهجرة من أفغانستان قرارًا، بل غريزة للبقاء، ليس من السهل أن يحمل الإنسان أطفاله ويعبر الصحارى أو يركب قوارب الموت إلا إذا كان الموت خلفه أكثر قسوة من ذلك الذي أمامه.
تقول سليمة، وهي أرملة في الخمسينات من عمرها، فقدت اثنين من أبنائها في انفجار بولاية ننغرهار، ثم ابنها الثالث على الحدود التركية: "كنا نريد أن نعيش فقط. لا شيء أكثر. لم نكن نبحث عن رفاهية، فقط الأمان".
عمليات ترحيل جماعي مهينة
رغم التقارير المتكررة عن عمليات ترحيل جماعي مهينة، واعتقالات عشوائية، وسوء معاملة، لم يصدر أي احتجاج رسمي من المؤسسات الدولية الكبرى، ولا من الدول التي تُفاخر بالدفاع عن حقوق الإنسان. كأن صراخ الأفغان لا يُسمع، أو أنه يُصنّف في خانة "الضوضاء الجانبية".
"لو كانت هذه الصور لأوروبيين يُعاملون بهذه الطريقة، لاهتزت العواصم"، يقول ناشط حقوقي في مدينة مشهد الإيرانية، رفض ذكر اسمه خوفًا من الاعتقال، "لكنهم أفغان.. ومن السهل أن يُغض الطرف عنهم".
حتى أولئك الذين نجحوا في الوصول إلى أوروبا أو أمريكا، لا زالت عيونهم مليئة بالخوف، يحملون معهم حقائب صغيرة من الأمل، وحقائب كبرى من الذكريات الموجعة: جثث على الحدود، أصوات الرصاص، دموع الأمهات، وأطفال فقدوا آباءهم إلى الأبد.
وفي مخيم مؤقت على الحدود بين إيران وأفغانستان، يُحاول الأطفال اللعب بعلب معدنية فارغة. الضحك الوحيد هنا يبدو غريبًا، كأنه انشق عن الموت بطريق الخطأ. الحياة تستمر، لكن بالكاد.