بين القانون والنزاعات.. هل تستطيع "المناطق الآمنة" احتواء المدنيين من فظائع الحروب؟

بين القانون والنزاعات.. هل تستطيع "المناطق الآمنة" احتواء المدنيين من فظائع الحروب؟
فلسطينيون بين الأنقاض في غزة

في كل نزاع مسلح، يتردد صدى مطلب واحد لا يشيخ ممثلاً في "حماية المدنيين". وهو مطلب يبدو بديهيًا في ضوء القانون الدولي الإنساني، لكنه غالبًا ما يصطدم بالحقائق على الأرض، ومع تصاعد الحروب المعاصرة وتعقيدها، تعود فكرة إقامة "مناطق آمنة" لتطرح نفسها كحل عاجل ينقذ أرواح الأبرياء، وسط تساؤلات حول جدوى هذه المناطق وقدرة الأطراف المتحاربة على احترامها.

وبحسب تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يعيش اليوم أكثر من 90% من ضحايا النزاعات المسلحة في مناطق حضرية، حيث تختلط الأحياء السكنية بالمنشآت العسكرية، وهذا التداخل يزيد من صعوبة إقامة مناطق آمنة أو ممرات إنسانية لا تُستهدف بالقصف أو الهجوم.

ورغم أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 تُلزم الأطراف المتنازعة بحماية المدنيين واتخاذ تدابير خاصة لتجنيبهم ويلات الحرب، إلا أن واقع النزاعات الأخيرة يُظهر أن الالتزام غالبًا ما يبقى حبرًا على ورق.

بين إنقاذ الأرواح واستغلال السياسة

في غزة، حيث تدور حرب مستمرة منذ أكتوبر 2023، أعلنت قوات الجيش الإسرائيلي مرارًا عن مناطق آمنة لإيواء النازحين، لكن تقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في يونيو 2025 تؤكد أن هذه المناطق تعرّضت للقصف مرارًا، ما أسفر عن سقوط آلاف الضحايا بينهم أطفال ونساء.

وبعد أشهر من القصف العنيف والحصار، لم يتم إنشاء أي "مناطق آمنة" ذات معنى تلتزم بها جميع الأطراف. بدلاً من ذلك، دفعت القوات الإسرائيلية المدنيين إلى مناطق يُفترض أنها "آمنة" في الجنوب، مثل رفح، ليجدوا أنفسهم لاحقًا تحت القصف مجددًا، وفي ظل ظروف معيشية كارثية، وقد وثقت منظمات حقوقية، مثل: هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، كيف تحولت "المناطق الآمنة" المزعومة إلى "فخاخ موت"، حيث لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية، وتتعرض للاستهداف المستمر.

وفي السودان، شهد إقليم دارفور منذ أبريل 2023 موجات نزوح جماعي مع تصاعد القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. دعت الأمم المتحدة مرارًا إلى إقامة مناطق آمنة، لكن النزاع المسلح والتفتت الأمني جعل التنفيذ شبه مستحيل، فاضطر مئات الآلاف للهرب عبر الحدود إلى تشاد وجنوب السودان.

وفي أوكرانيا، لجأت السلطات منذ بدء الغزو الروسي في فبراير 2022 إلى إقامة ممرات إنسانية لإجلاء المدنيين من مناطق القتال في خاركيف وماريوبول، غير أن بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق وثّقت انتهاكات متكررة لهذه الممرات بقصف مباشر، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات.

من يحمي المناطق الآمنة؟ 

تؤكد منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها صدر في أبريل 2025 أن فشل الأطراف المتحاربة في احترام المناطق الآمنة والممرات الإنسانية يعود غالبًا لغياب الضمانات الدولية القوية، إذ إن إنشاء منطقة آمنة لا يكتمل إلا بضمان حمايتها من خلال قوات محايدة أو تحت مظلة الأمم المتحدة، وهو ما يصطدم عادةً بحسابات سياسية معقدة.

في رواندا عام 1994، مثلًا، تم إنشاء المنطقة الإنسانية المحمية في غوما بمبادرة فرنسية في إطار عملية "تركواز"، فنجحت نسبيًا في إنقاذ آلاف المدنيين. أما في البوسنة، فشهدت المنطقة الآمنة في سربرنيتسا واحدة من أسوأ المجازر بعد عجز قوات الأمم المتحدة الهولندية عن صد هجوم القوات الصربية، ما أسفر عن مقتل أكثر من 8000 مسلم بوسني.

الخوف الدائم من المجهول

رانية، وهي أم فلسطينية نزحت مؤخرًا من شمال غزة إلى ما وصف بـالمنطقة الآمنة، قالت في شهادة موثقة لمنظمة العفو الدولية: "ذهبنا بحثًا عن الأمان لكننا وجدنا الموت أقرب إلينا، القصف لاحقنا حتى داخل خيام النازحين".

وفي دارفور، تحدث لاجئ سوداني يُدعى حسن لوسائل الإعلام: "هربنا من قرانا بعدما قالوا إن هناك مناطق محمية، لكننا وجدنا أنفسنا في العراء بلا حماية أو طعام".

هذه الشهادات، التي وثقتها تقارير حقوقية، تلخص معاناة الملايين الذين يفرّون تاركين خلفهم منازلهم وأحلامهم، ليصطدموا بواقع أن المنطقة الآمنة قد تكون مجرد وهم على الخرائط.

وفي مايو 2025، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بيانًا حث فيه جميع الأطراف في غزة والسودان وأوكرانيا على الالتزام التام بالقانون الدولي وتسهيل إقامة مناطق آمنة حقيقية، لكن البيان توقف عند حدود الإدانة دون فرض آليات مراقبة أو عقوبات.

من جانبها، شددت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على ضرورة أن تكون إقامة مناطق آمنة جزءًا من اتفاق رسمي بين الأطراف المتحاربة، مع تحديد واضح لحدودها وآلية إدارتها، غير أن هذا الشرط نادرًا ما يتحقق في نزاعات اليوم، حيث تنعدم الثقة بين الأطراف وتختلط خطوط القتال.

إحصاءات تفضح الفجوة

وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يونيو 2025، يوجد أكثر من 117 مليون نازح ولاجئ حول العالم، نصفهم تقريبًا فرّوا بسبب النزاعات المسلحة المباشرة.

في غزة وحدها، قُتل أكثر من 38 ألف شخص منذ أكتوبر 2023، أكثر من 70% من بينهم من النساء والأطفال، بحسب وزارة الصحة في القطاع وتقارير أممية.

في السودان، تخطى عدد النازحين داخليًا 10 ملايين شخص حتى منتصف 2025، وفقًا لمفوضية شؤون اللاجئين.

فكرة ولدت من المآسي

تعود جذور المناطق الآمنة إلى اتفاقيات جنيف، لكن التجربة الأبرز تعود للحرب العالمية الثانية، حيث حاولت بعض الدول إقامة مدن محمية للمدنيين، لاحقًا، تطورت الفكرة في البوسنة ورواندا، ومع ذلك ظل التنفيذ يعتمد كليًا على الإرادة السياسية والدعم العسكري الدولي.

ويبقى إنشاء مناطق آمنة خطوة ضرورية لإنقاذ الأرواح، لكن التجارب الحديثة تُظهر أن نجاحها يتطلب ما هو أكثر من مجرد إعلان، يتطلب آليات مراقبة مستقلة، وقوات محايدة، والتزام قانوني صارم من جميع الأطراف، وضمانات دولية حقيقية.

من دون ذلك، تظل المناطق الآمنة مجرد لافتات يلوذ بها المدنيون ليكتشفوا أن الحرب لا تعترف بخطوط على الورق وأن الإنسان يظل الحلقة الأضعف وسط صراع السلاح والسياسة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية