أزمة تُهدد صحة ملايين النساء.. لماذا تعتزم الولايات المتحدة إتلاف إمدادات حيوية لمنع الحمل؟
أزمة تُهدد صحة ملايين النساء.. لماذا تعتزم الولايات المتحدة إتلاف إمدادات حيوية لمنع الحمل؟
في قرار صادم ومثير للجدل، أثارت خطط الولايات المتحدة لإتلاف منتجات نسائية حيوية مخصصة لمنع الحمل، تبلغ قيمتها نحو 10 ملايين دولار أمريكي ومخزنة في أوروبا، غضباً واسعاً بين المنظمات غير الحكومية العالمية المعنية بالصحة، وهذا القرار، الذي وصفته منظمة "أطباء بلا حدود" بـ"الهدر غير المبرر"، يُلقي بظلاله على التزام واشنطن بالمساعدات الإنسانية العالمية ويُثير تساؤلات جدية حول تأثير الأجندات السياسية على حياة وصحة ملايين النساء والفتيات حول العالم.
قرار سياسي بتكاليف إنسانية
الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية أكد -وفقاً لوكالة فرانس برس- أن واشنطن “اتخذت قراراً أولياً بإتلاف بعض منتجات منع الحمل هذه”، مشيراً إلى أنها مرتبطة بـ"عقود للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مبرمة في عهد الرئيس السابق جو بايدن وجرى إلغاؤها" عقب عودة خلفه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهذا التوضيح يُشير إلى أن القرار ليس اقتصادياً أو لوجستياً، بل هو نتاج تغيير في السياسات الأمريكية المتعلقة بالمساعدات الخارجية، خاصة تلك التي تُعنى بالصحة الإنجابية.
تشير تقارير صحفية إلى أنه من المقرر حرق هذه المنتجات، التي تشمل غرسات منع حمل ولوالب رحمية، وتبلغ قيمتها تحديداً 9.7 مليون دولار أمريكي، هذه الإمدادات، التي تُعدّ أساسية ومُنقذة للحياة، مخزنة حالياً في بلجيكا، ومن المقرر أن يتم إتلافها في فرنسا بموجب هذه الخطة، إن تكلفة هذه العملية وحدها ستبلغ 167 ألف دولار أمريكي، وهو ما يُضيف إلى حجم الهدر المالي، فضلاً عن الهدر الإنساني الذي لا يُقدر بثمن.
نداءات الحقوقيين: "الهدر غير المبرر" و"حياة الناس في خطر"
عبّرت أفريل بينوا، الرئيسة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود في الولايات المتحدة، عن صدمتها واستيائها من هذا القرار، مؤكدة أن "موانع الحمل منتجات صحية أساسية ومنقذة للحياة"، وشددت بينوا على أن منظمتها "شهدت بنفسها الفوائد الصحية الإيجابية عندما تتمكن النساء والفتيات من اتخاذ قراراتهن الصحية بحرية باختيار منع الحمل أو تأخيره، والعواقب الوخيمة عندما لا يتمكنّ من ذلك"، هذا التصريح يُسلط الضوء على الأثر المباشر لهذه الإمدادات على تمكين النساء وتقليل مخاطر الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض غير الآمن.
وأضافت بينوا، في بيان لاذع، أن "إتلاف المواد الطبية القيّمة التي دفع ثمنها دافعو الضرائب الأمريكيون لا يسهم في مكافحة الهدر أو تحسين الكفاءة"، وتابعت قائلة إن "هذه الإدارة مستعدة لحرق وسائل منع الحمل وترك الإمدادات الغذائية تتعفن، ما يعرض صحة الناس وحياتهم للخطر لتحقيق أجندة سياسية".
هذا الاتهام المباشر يُشير إلى أن القرار يُعدّ جزءاً من أجندة سياسية أوسع تُضحي بالصحة العامة من أجل تحقيق أهداف معينة، والتي سبق أن شملت إتلاف أطنان من الأغذية منتهية الصلاحية المخصصة للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في عهد إدارة ترامب السابقة.
عواقب تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)
لم يأتِ هذا القرار بمعزل عن سياق أوسع. فقد كان لتفكيك إدارة الرئيس ترامب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، من خلال فصل آلاف الموظفين ودمجها في وزارة الخارجية، عواقب وخيمة على برامج المساعدات الخارجية الأمريكية، هذه الخطوات أدت إلى إلغاء سلسلة من البرامج التي تُقدم خدمات تنظيم الأسرة والإجهاض، مما يُقلص الدعم الأمريكي في مجال الصحة الإنجابية حول العالم.
تُشير منظمة أطباء بلا حدود إلى أن منظمات أخرى كانت قد عرضت تغطية تكاليف شحن وتوزيع هذه الإمدادات من موانع الحمل، لكن الحكومة الأمريكية رفضت الموافقة على ذلك، مما يُثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء قرار الإتلاف، هذا الرفض يُعزز الرأي القائل بأن الهدف ليس فقط إلغاء العقود، بل إزالة هذه المنتجات من التداول بالكامل، حتى لو كان ذلك على حساب احتياجات صحية ماسة.
حياة الملايين على المحك
تُعدّ خدمات تنظيم الأسرة ومنع الحمل ركيزة أساسية للصحة العامة والتنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم، وتُوضح عضو مجلس الشيوخ الديمقراطية جين شاهين أهمية هذه المساعدات، مشيرة إلى أنه في الظروف العادية، "تصل مساعدات التخطيط الأسري إلى أكثر من 47 مليون امرأة وزوج سنوياً"، وتُساهم هذه المساعدات في منع "8.1 مليون حالة حمل غير مرغوب فيها، و5.2 مليون حالة إجهاض غير آمن، و34 ألف حالة وفاة بين الأمهات".
إن إتلاف هذه الإمدادات يُهدد بتقويض هذه الإنجازات، ويُعرض حياة ملايين النساء والفتيات للخطر، خاصة في الدول النامية حيث تُعدّ هذه المساعدات شريان حياة للكثيرين. فعدم توفر وسائل منع الحمل يُمكن أن يؤدي إلى:
زيادة الوفيات بين الأمهات والأطفال: الحمل غير المخطط له، خاصة في ظروف صحية صعبة، يُزيد من مخاطر المضاعفات والوفيات.
ارتفاع معدلات الإجهاض غير الآمن: عندما لا تتوفر وسائل منع الحمل، تلجأ النساء في كثير من الأحيان إلى الإجهاض غير الآمن، مما يُسبب آلاف الوفيات والإصابات الخطيرة سنوياً.
تدهور صحة المرأة: عدم القدرة على تنظيم النسل يُمكن أن يؤثر سلباً على صحة المرأة الجسدية والنفسية، ويُعيق قدرتها على التعليم والعمل والمساهمة في مجتمعها.
زيادة الأعباء الاقتصادية على الأسر: الأسر التي لا تستطيع تنظيم حجمها تواجه تحديات اقتصادية أكبر في توفير الغذاء والرعاية الصحية والتعليم لأطفالها.
إن هذا القرار، إلى جانب موافقة المشرعين الأمريكيين مؤخراً على خفض حوالي 9 مليارات دولار من المساعدات المخصصة بشكل أساسي للدول الأجنبية، يُرسل رسالة مقلقة حول تراجع الالتزام الأمريكي بالتعاون الدولي والمساعدات الإنسانية، ويُهدد بترك فجوة هائلة في جهود التنمية والصحة العامة العالمية.
النداءات مستمرة: "لا تهدروا الأمل"
بينما تُواصل الإدارة الأمريكية سعيها لتنفيذ خطتها، تُصعد المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية من نداءاتها المطالبة بإعادة النظر في هذا القرار، فالمواد الطبية الأساسية، مثل موانع الحمل، ليست مجرد بضاعة يمكن إتلافها؛ إنها أدوات تُمكن النساء من التحكم في أجسادهن ومستقبلهن، وتُساهم في إنقاذ الأرواح وتحسين الصحة العامة، إن هذا الهدر لا يُعدّ خسارة مالية فحسب، بل هو إهدار للأمل والحياة لعدد لا يُحصى من النساء والفتيات اللاتي يعتمدن على هذه الإمدادات في ظروفهن الصعبة.
لطالما كانت المساعدات الخارجية الأمريكية في مجال الصحة الإنجابية محور جدل سياسي داخلي، خاصة بين الإدارات الجمهورية والديمقراطية، وتُعرف هذه الظاهرة بـ"قاعدة المكسيك سيتي" (Mexico City Policy)، أو ما يُطلق عليها أيضاً "قاعدة لويزيانا" (gag rule)، هذه القاعدة، التي فُرضت لأول مرة في عام 1984 من قبل إدارة الرئيس رونالد ريغان في مؤتمر الأمم المتحدة للسكان في مكسيكو سيتي، تُحظر على المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تتلقى تمويلاً أمريكياً في مجال التخطيط الأسري من استخدام أي من أموالها (سواء كانت أمريكية أو غير أمريكية) لتقديم خدمات الإجهاض أو تقديم المشورة أو الإحالة بشأن الإجهاض.
التطبيق التاريخي لـ“قاعدة المكسيك سيتي”
إدارات جمهورية (مثل ريغان، بوش الأب، بوش الابن، ترامب): عادةً ما تُعيد تفعيل هذه القاعدة وتُطبقها بشدة، مما يُؤدي إلى قطع التمويل عن العديد من المنظمات التي تُقدم خدمات الصحة الإنجابية الشاملة، بما في ذلك المشورة بشأن الإجهاض.
إدارات ديمقراطية (مثل كلينتون، أوباما، بايدن): عادةً ما تُلغي هذه القاعدة أو تُخفف من تطبيقها، مما يُمكن المنظمات من تلقي التمويل الأمريكي أثناء تقديم مجموعة واسعة من خدمات الصحة الإنجابية.
قرار إدارة ترامب بإلغاء العقود المتعلقة بموانع الحمل يتسق مع هذه القاعدة. فبالرغم من أن موانع الحمل ليست إجهاضاً، إلا أن الإدارات التي تُطبق قاعدة المكسيك سيتي بقوة قد تُوسّع نطاقها لتقييد أي تمويل أو دعم يتعلق بالصحة الإنجابية الشاملة التي قد تُفسر على أنها تُسهل الإجهاض بشكل غير مباشر، أو قد تُفضل ببساطة تقليص الدعم لبرامج تنظيم الأسرة التي لا تتماشى مع رؤيتها الأيديولوجية، هذا يُفسر سبب إتلاف هذه الإمدادات بدلاً من تحويلها لمنظمات أخرى، حيث إن الإدارة قد لا ترغب في أن تُستخدم هذه الموانع في سياقات لا تتوافق مع رؤيتها السياسية. يُعد هذا الإجراء مثالاً صارخاً على كيفية تسييس المساعدات الإنسانية وتأثير الأجندات الداخلية على حياة الفئات الأكثر ضعفاً حول العالم.