نعم للتعددية لا للطائفية

نعم للتعددية لا للطائفية

 

خلط كثيرٌ من المتخصصين في دراسة المجتمعات والتركيبة البشرية لها بين التعددية والطائفية وتوهم جمهرة من الباحثين أن الحديث عن التعددية مكروه لأنه يعني وجود أطراف مختلفة للتركيبة السكانية بما يشير إلى أن الأمة ليست على كلمة سواء وأن الشعب مختلف النوازع والاتجاهات، وهذا التصور خاطئ من بدايته، فالتعددية نعمة في حين أن الطائفية نقمة، لأن التعددية هي درجة عالية من التعايش السلمي بين مختلف الأصول والأعراق والديانات ولكن في انسجام كامل وانصهار حقيقي، ولذلك ظهر بين نظم الحكم ودساتير الدول ما نطلق عليه الدولة الفيدرالية التي استقرت أوضاعها ودام وجودها حتى إننا لم نعد ندرك أهي دولة اتحادية أم موحدة؟

كل ذلك والطائفية على الجانب الآخر تعني درجة حادة من التعصب والصدام القومي والانحياز إلى دين أو عرق أو طائفة وهي بذلك تبدو مرضاً شريراً ينخر في عظام المجتمعات والشعوب ويمضي على طريق الانقسام والتجزئة ويوطد حال الريبة التي تغلف أية علاقة بين الأطراف حتى لو كانوا تحت راية واحدة أو علم مشترك.

من هنا جاءت فكرة هذه المقالة، فلقد لاحظت خلال العقود الأخيرة أن الطائفية تضطلع بدور خبيث في استقرار عدد من الدول العربية ورسوخ جذورها، فالخلافات الطائفية والمذهبية تمزق أوصال الدول ولعل تركيبة منطقة الشام وإقليمها المزدهر خير شاهد على ذلك، فسوريا الكبرى تضم أصولاً وأعراقاً وديانات ومذاهب تعايشت مع بعضها عبر القرون وظلت لأعوام طويلة فلكاً تدور حوله شخصية الدولة السورية أو اللبنانية أو حتى العراقية، فقد آمن الجميع بمفهوم التعايش المشترك والتداخل القائم بين الجماعات البشرية المختلفة والمكونة لمفهوم الدولة بمعناه الحديث، ولنا هنا بعض الملاحظات المرتبطة بهذا الشأن:

أولاً، إن التعددية هي تنوع إيجابي تستقر به الدول وتمضي معه النظم، ولقد لاحظنا أن التعددية في بعض دول شرق آسيا وأقاليم الهند الصينية تمكنت من دفع عجلة التقدم نتيجة ذلك التنافس بين العنصر الصيني والعنصر الهندي، بل وبعض العناصر المحلية على نحو أدى إلى تفوق الإنتاج وازدهار المجتمع، إضافة إلى أن التعددية نسق إيجابي للعلاقة بين الأفراد داخل المجتمعات المختلفة، لذلك فهي تمثل قوة دفع استقرت معها الشعوب وازدهرت الدول.

ثانيًا، إن الطائفية مرض خبيث تبدو نتائجه عكسية تماماً للتعددية الإيجابية، إذ إنها تقسم الأمم والشعوب بصورة لا تخلو من العنصرية البغيضة ولا تبرأ من التعصب، وشهدنا نموذج الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت 15 عاماً حصدت خلالها عدداً كبيراً من الأرواح ودمرت كثيراً من العمران بل قهرت الأسر والأفراد، وما أكثر الصراعات الدامية التي نجمت عن الطائفية وتوابعها الخبيثة، وانتشر هذا المرض وسرى يمس أعصاب الحياة ووجدان أبناء الطوائف والأعراق المختلفة، وفي مثل هذه المجتمعات الكئيبة دعنا نسجل أسباب الاحتقان الطائفي شرارة أولى لكثير من الصراعات المحلية والحروب الأهلية، إذ تتوهم كل فرقة أو طائفة أنها صاحبة ولاية وسلطة والقول الفصل وأنها تتميز على غيرها وتستحق ما تملكه سواها، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ثالثًا، إن الأقليات بطبيعتها تتميز بدرجة من التفوق تجعلها أكثر تقدماً وانسجاماً عن غيرها، ذلك أن الأقلية تشعر بأن رصيدها الوحيد هو المهارة في العمل والتجويد في الأداء حتى تتمكن من التعايش مع غيرها والاستمرار في بقائها، ولقد عشت في الهند أعواماً ولاحظت تميز الأقلية المسلمة هناك وسط غيرها، وبالقياس نفسه مع اختلاف النوعية لاحظت أيضاً تميز الأقباط في مصر وقدرتهم على التفوق كأقلية عددية فقط وليست أقلية العرق والأصل ولكن بالكم والعدد وحدهما، وكان التميز واضحاً فأفرز نماذج مصرية من أمثال بطرس غالي ومجدي يعقوب وغيرهما.

 رابعًا، إن التعددية تؤدي بالضرورة إلى حيوية الحياة السياسية وازدهار النشاط الاقتصادي لأنها تدفع الجميع إلى حال من التنافس الإيجابي وتشجع على بناء جسور للتواصل بين الثقافات والعقائد بعيداً من التعصب والتشدد والإقصاء، فالتعايش المشترك في هذا العالم الخانق الذي نعيش فيه يقتضي التواصل والترابط وليس الصراع والصدم وشيوع خطاب الكراهية.

خامساً، لا شك في أن الطائفية تحرم الدول التي تعتنق التوزيع الطائفي لمصادر القرار ومراكز الحكم من الكفاءات البديلة في مجتمع يجب أن يكون مفتوحاً وصحياً يضع الشخص المناسب في المكان المناسب ويستفيد من كل الطاقات المتاحة والكفاءات الموجودة بغض النظر عن الانتمائات الدينية أو العرقية أو التقسيمات الطائفية، ورأيت بعيني رأسي سقوط بعض الدول التي ترتكز على النظام الطائفي في مستنقع التوزيع الأحمق للمناصب، إذ تصل الحقيبة الوزارية إلى من لا يستحق، لكنه مجرد تسديد خانة لموقع طائفي لا بد من ملئه حتى لو جاء ذلك على حساب الكفاءة، وجاء خصماً من حسن أداء الحكم والقدرة على حل المشكلات ومواجهة المصاعب.

سادساً، إن التعددية هي تعزيز تلقائي لمبدأ المواطنة لأنها تسعى إلى أن يكون لكل فرد مكان مستحق على خريطة الوطن، فالمراكز القانونية متساوية بين الجميع وتكون العبرة فقط بكفاءة العمل ومهارة الأداء، إذ إن إعمال مبدأ المواطنة -متقدماً على ما سواه- ينهض دليلاً على أن المجتمع وصل إلى مرحلة من النضوج التي تعلي من شأنه وترفع من قيمته الحقيقية بين المجتمعات.

سابعاً، إن المقارنة بين الطائفية والتعددية تضيء أمامنا الطريق للتفرقة بينهما، فليست كل تعددية طائفية ولا معنى للطائفية في إطار التعددية، فالأولى بالمواطن العصري هو أن يعتمد على الوطن بكل مكوناته بدلاً من الاعتماد على طائفة منه حتى يكون حراً ومجرداً من الانتماء الخاص ما دام يسعى إلى الحياة العامة بما لها وما عليها.

ثامناً، إن كثيراً من الدول المعاصرة عبرت حاجز الطائفية واتجهت إلى التعددية التي تعطي كل فرد ما يستحقه على ساحة الوطن من دون تقسيمات أو حواجز أو أهواء، وعانينا في عالمنا العربي لعقود طويلة حمى الطائفية، بحيث تراجعت قدراتنا أمام تلك التقسيمات الفرعية للطوائف الدينية التي تركز على انتماء عنصري متشدد أو ديني مغلوط، وتكون النتيجة في النهاية صادمة لكل من يريد الخير للأمة العربية التي عانت كثيراً عبر تاريخها الطويل.

تاسعاً، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فلتكن هذه الآية الكريمة دليلاً استرشادياً لشعوب في أمتنا عانت ولا تزال سرطان الطائفية في منطقة من العالم تضم كثيراً من الأعراق بين العرب والفرس والترك والكرد، وفرقاً من السنة والشيعة والدروز والعلويين وغيرهم، لكي أصيح بصوت مرتفع دعونا من تلك التقسيمات الطائفية والتنويعات العرقية ولنفكر جميعاً في غايات واحدة وأهداف نبيلة تنتشل أمتنا العربية من مستنقع الإرهاب وسوس الطائفية الذي ينخر في عظام الأمة، ولندرك جميعاً أهمية قبول التعددية والإيمان بوحدة الإنسان حتى لو اختلفت الأوطان.

عاشراً، إن استقراء تاريخ الأمتين العربية والإسلامية يشير بصورة قاطعة إلى أهمية التضامن القومي والتوافق الوطني والإحساس المشترك بأن القومية والوطنية هما انتماء أصيل لا تفرقه طوائف ولا تمزقه انتماءات، ولقد خاطب الله سبحانه وتعالى البشر جميعهم في الذكر الحكيم بقوله "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"، فوحدة الأوطان معترف بها وشخصية الشعوب أمر لا جدال فيه ولقد حان الوقت لصحوة عربية تحترم التعددية وترفض الطائفية وتنبذ كل دوافع التفرقة والإقصاء التي عانيناها لأعوام طويلة، ودفعنا لها ثمناً باهظاً من قوافل الشهداء ومواكب المناضلين.


 

نقلاً عن إندبندنت عربية


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية