بحق المعارضين والأقليات.. لماذا فشلت الضغوط الدولية في وقف الاحتجاز التعسفي في الصين؟

بحق المعارضين والأقليات.. لماذا فشلت الضغوط الدولية في وقف الاحتجاز التعسفي في الصين؟
محتجزون من الإيغور في الصين

مرت الآن ثلاث سنوات على نشر تقييم مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بشأن شينجيانغ في الصين، الذي خلص إلى أن مدى الاحتجاز التعسفي التمييزي الذي طال الإيغور وغيرهم من الأقليات يمكن أن يصل إلى مستوى جرائم دولية، ومنها جرائم ضدّ الإنسانية. مع ذلك، لم يترجم هذا التقدير إلى وقف ملموس لممارسات الاحتجاز التعسفي، حسب مراقبين ومنظمات حقوقية دولية.

البيانات والنداءات تتكرر في أروقة الأمم المتحدة وفي تقارير من هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى، في حين تتابع السلطات الصينية قيودها وسياساتها الأمنية في مناطق متعددة وفق مفوضية حقوق الإنسان.

حجم الظاهرة ودلائل الاستمرار

تُظهر تقارير حقوقية موثوقة أن الاحتجاز العشوائي واسع النطاق لم يتراجَع، وقد وثقت منظمات دولية أن مئات الآلاف، بل أرقام تصل إلى نحو نصف مليون شخص أو أكثر، حُكم عليهم أو احتُجزوا في إطار حملات قضائية وأمنية متصلة بسياسات ما بعد 2017، وتقدر مصادر خبرية وتحليلية مستقلة أن حملة الاحتجاز والإحالة إلى السجون والعمل القسري شملت أعداداً كبيرة من المدنيين من الإيغور والأقليات، وتعكس هذه المعطيات استمرار تطبيق سياسات قمع تُغذّيها آليات قانونية وإدارية تسمح بالاحتجاز خارج رقابة قضائية فعالة بحسب المرصد الدولي لحقوق الإنسان.

تتداخل أسباب استمرار الاحتجاز التعسفي في عدة مستويات، منها: أولاً، استخدام الدولة لخطاب الأمن القومي ومكافحة “الإرهاب” غطاءً واسع النطاق لتبرير تدابير قمعية، ما يوسع صلاحيات الأجهزة الأمنية ويتيح تفسيراً مرناً لشبهة “الخطر الأمني”، وثانياً، أدوات قانونية مثل أحكام القانون الجنائي وسلطة تطبيق ما يُعرف بـ"الرصد السكني في مكان محدد" (RSDL) تتيح احتجاز أشخاص لفترات طويلة دون وصول فعلي إلى محامٍ أو اتصال عائلي، وهو ما وصفه خبراء الأمم المتحدة بأنه قد يرقى إلى شكل من أشكال الاختفاء القسري، وثالثاً، تقنيات المراقبة الشاملة والبيانات الكبيرة تعزز قدرة الدولة على استهداف مجموعات وأفراد بدقة وتطبيق عقوبات إدارية أو جنائية بسرعة، ما يجعل آلية الاحتجاز أكثر فعالية من منظور السلطة. 

التبعات الإنسانية 

تكلفة الاحتجاز التعسفي إنسانياً تتمثل في وجود أُسر بلا أخبار عن ذويها لسنوات، وأطفال محرومين من أحد الوالدين، وخسائر في سبل العيش، وحرمان من التعليم، وصدمات نفسية منتشرة في المجتمع. وتوصف حالات معروفة، مثل احتجاز طبيبة إيغورية لسنوات بعد تواصل فردي لأقاربها مع الخارج، بأنها نماذج لما تعيشه آلاف العائلات من معاناة، وهذه الممارسات تقوّض النسيج الاجتماعي وتزيد احتمالات التهجير واللجوء، كما تُحوّل مجتمعات بكاملها إلى ساحة خوف من التعبير أو التنظيم المدني وفق مفوضية حقوق الإنسان.

طالبت منظمات حقوقية أبرزها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وحقوقيون مستقلون بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الحقوقية في الصين وفتح تحقيقات دولية مستقلة، وكرروا الدعوة للإفراج عن المعتقلين تعسفياً، وفي محافل الأمم المتحدة كرّرت دول أوروبية وأطراف فصائل المجتمع المدني مخاوفها وطالبت بمتابعة توصيات تقرير 2022، كما حذر مكتب المفوض السامي نفسه، في تحديثات أمام مجلس حقوق الإنسان، من عدم وجود تقدم ملموس رغم الجهود الدبلوماسية، ودعا إلى إجراءات أكثر حزماً لحماية الضحايا وضمان الوصول والمساءلة.

الانتقام والتضييق 

أضفت استراتيجية مضادة من جانب الدولة بعداً آخر للأزمة حيث وثقت تقارير أممية ومدنية حالات انتقام ومضايقات استهدفت نشطاء وصحفيين وعائلات متعاونين مع هيئات حقوق الإنسان، فضلاً عن ظهور منظمات قريبة من الدولة ضمن فضاءات الأمم المتحدة تعمل على عزل الأصوات المستقلة ومراقبتها، وهو ما يزيد الضغط على العاملين الحقوقيين ويقلص مساحة الشفافية، وهذا النمط من المضايقات يُصعّب توثيق الانتهاكات ويعرقل آليات التحقيق. 

الأرضية القانونية والالتزامات الدولية

تقرير مكتب المفوض السامي حذر صراحة من احتمال ارتكاب جرائم دولية، وهو استنتاج يحمل تبعات قانونية وسياسية، فالصين موقعة على مواثيق دولية عدة لكنها لم تُصدق على بعض الآليات الأساسية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ما يحد من نطاق الضمانات القانونية التي يمكن أن تُطبَّق داخلياً بصورة ملزمة، وفي المقابل، تخضع بكين لالتزامات عامة بمقتضى القانون الدولي العرفي، وتُواجه دعوات لاستخدام أدوات رقابية أممية أو تحقيقات مستقلة للتأكد من الوقائع ومساءلة المسؤولين في الصين

ما المطلوب على أرض الواقع؟

وتطالب منظمات حقوقية بإجراءات متلازمة: السماح الفوري وغير المشروط بالوصول المستقل إلى المحتجزين، الإفراج عن المخطوفين تعسفياً، إلغاء أحكام التشريع التي تسمح بالاحتجاز السري (مثل أحكام RSDL)، وتفعيل آليات مراقبة ومساءلة تضم خبراء أمميين مستقلين، كما تطالب ببرامج تعويض وإعادة تأهيل للضحايا وأسرهم، وإجراءات وضمانات لوقف الممارسات التي تؤدي إلى تفكيك الهوية الثقافية والدينية للأقليات

أزمة شينجيانغ، تظلّ اختباراً لجدّية النظام الدولي في حماية حقوق الإنسان، واستمرار الاحتجاز التعسفي واسع النطاق لا يقتصر أثره في الضحايا المباشرين، بل يشكل تجربة تحذيرية عن كيفية استعمال القانون وأمن الدولة لقمع المجتمعات. والتحدي الآن أن تتحول الإدانات إلى إجراءات تحقق في الوقائع، وأن تُوفّر للأسر والضحايا مسارات عدالة وعودة للكرامة، وإن لم تترجم التوصيات الدولية إلى آليات فعالة ومستقلة للحقيقة والمساءلة، فستبقى المأساة مستمرة، وتتعاظم آثارها الإنسانية في أجيال قادمة وفق مفوضية حقوق الإنسان.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية