الإبادة تحت غطاء "التدريب المهني.. كيف تغطي الصين على انتهاكات الإيغور؟
الإبادة تحت غطاء "التدريب المهني.. كيف تغطي الصين على انتهاكات الإيغور؟
اتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" السبت الحكومة الصينية بالاستمرار في تغطية الانتهاكات الواسعة بحق الأويغور والأقليات المسلمة الناطقة بالتركية في إقليم شينجيانغ، عبر تعزيز حملات دعائية تُظهر المنطقة بصورة "طبيعية"، في حين يؤكد الواقع أن القمع لم يتوقف منذ سنوات.
وبحسب المنظمة الحقوقية، فإن بكين ترفض توصيات الأمم المتحدة وتقاريرها التي وصفت ما يحدث في شينجيانغ بأنه قد يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية، وتواصل سياسة إنكار أي تجاوزات، متهمة المنظمات الحقوقية والدول المنتقدة لها بـ"الكذب والتسييس".
تتقاطع هذه الاتهامات مع شهادات أويغورية من داخل وخارج الصين، توثق قصص اعتقالات تعسفية، وانقطاع الاتصالات بين أفراد العائلات، وخوف السكان من مجرد التواصل مع أقاربهم في المهجر، وكثير من العائلات لا يعلم مصير أبنائه المحتجزين في مراكز "إعادة التأهيل" أو في السجون، في حين يواجه المثقفون والزعماء الدينيون أحكامًا مطولة تصل إلى عشرات السنين، وبعض الشهادات تكشف عن حالات قسرية للعمالة، وفصل الأطفال عن أسرهم في مؤسسات خاضعة للرقابة، ما يسلط الضوء على ما وصفه خبراء حقوق الإنسان بـ"الإبادة الثقافية الممنهجة".
أرقام تكشف حجم المأساة
الإحصاءات المسربة والدراسات المستقلة تضع صورة أكثر وضوحًا للوضع في شينجيانغ، حيث تشير تقديرات منظمات حقوقية إلى أن نحو مليون شخص مروا بمراكز الاعتقال أو التدريب القسري منذ 2017.
كما قدر مشروع حقوق الإيغور أن شخصًا من كل 26 من الإيغور يقبع خلف القضبان، بمعدل اعتقال هو الأعلى عالميًا، وأوضحت دراسة لجامعة ييل أن مجموع سنوات الأحكام الصادرة بحق الأويغور يبلغ 4.4 مليون سنة سجنية، وهو رقم صادم يعكس اتساع دائرة القمع.
كما توثق تقارير أخرى أن ما يقارب نصف مليون إيغوري محتجزون في السجون بشكل مباشر، في حين أُخضع ثلاثة ملايين شخص لبرامج عمل قسري.
هذه الأرقام تكشف أن سياسة بكين لا تقتصر على "إعادة التعليم"، بل ترمي إلى إعادة تشكيل المجتمع الإيغوري بالكامل.
موقف المنظمات الحقوقية
في أغسطس 2022، نشرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان تقريرًا تاريخيًا خلص إلى أن الانتهاكات في شينجيانغ قد ترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية"، ودعا التقرير بكين إلى الإفراج الفوري عن المعتقلين تعسفيًا وإجراء مراجعة شاملة للسياسات التمييزية، غير أن الصين رفضت التقرير ووصفته بـ"غير الشرعي"، مؤكدة أن ما يجري في الإقليم يندرج ضمن "مكافحة الإرهاب والتطرف".
إلى جانب الأمم المتحدة، واصلت منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" نشر وثائق وتقارير تستعرض الانتهاكات، بما في ذلك محو أسماء القرى والبلدات ذات الطابع الأويغوري، وتقييد الحريات الدينية، وملاحقة الناشطين في الخارج في حين يعرف بـ"القمع العابر للحدود"، لكن تأثير هذه التقارير يصطدم بعقبات سياسية داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث تمكنت بكين من حشد دعم دولي لإفشال مبادرات عقد نقاش رسمي حول الانتهاكات، كما حدث في مجلس حقوق الإنسان عام 2022.
بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، وصف ما يجري في شينجيانغ بـ"الإبادة الجماعية"، وفرضت عقوبات على مسؤولين صينيين وشركات متهمة بالضلوع في العمل القسري. الاتحاد الأوروبي بدوره اتخذ خطوات مشابهة، لكن استجابته بقيت محدودة مقارنة بحجم الانتهاكات.
في المقابل، ظلت دول أخرى صامتة أو داعمة لبكين، معتبرة أن القضية "شأن داخلي صيني"، وهو ما يعكس نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي، وهذا الانقسام الدولي مكّن بكين من المضي في سياساتها دون خوف كبير من المساءلة.
لماذا التغطية والتضليل؟
ترى منظمات حقوقية أن إصرار بكين على التضليل الإعلامي والدبلوماسي ينبع من ثلاثة دوافع رئيسية: أولها الحفاظ على الاستقرار الداخلي؛ حيث تبرر الصين إجراءاتها بضرورات الأمن القومي ومكافحة التطرف، وثانيها إحكام السيطرة الثقافية عبر محو الهوية الإيغورية وإحلال هوية جديدة قائمة على الولاء للحزب الشيوعي، وثالثها تجنب العزلة الدولية من خلال تسويق روايات دعائية وتنظيم جولات دعائية لدبلوماسيين وصحفيين أجانب؛ بهدف إظهار "الحياة الطبيعية" في الإقليم.
يعيش الإيغور، وهم شعب مسلم من أصول تركية، في إقليم شينجيانغ شمال غربي الصين الذي يتمتع بوضع "حكم ذاتي" شكلي. تاريخيًا، شهد الإقليم محاولات استقلالية وقلاقل أمنية، خصوصًا في العقود الماضية، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، شددت السلطات الصينية قبضتها الأمنية، واعتبرت أي تحرك أو مطالبة ثقافية أو دينية تهديدًا لوحدة البلاد.
لكن منذ عام 2014، تصاعدت الحملة الأمنية بشكل غير مسبوق تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، ومع وصول شي جين بينغ إلى السلطة، تحولت سياسات الإقليم إلى منظومة متكاملة من المراقبة الجماعية، الاعتقال، والعمل القسري، وصولًا إلى ما وصفه خبراء بـ"هندسة اجتماعية تهدف لتغيير هوية مجتمع بأكمله".
الأزمة لا تقف عند حدود الصين، إذ يواجه الإيغور في الشتات ضغوطًا هائلة، وكثير منهم انقطع عن التواصل مع أسرهم خوفًا من تعريضهم للخطر داخل الصين، ووثقت تقارير حقوقية محاولات ترهيب للإيغور في الخارج، تشمل مراقبة أنشطتهم أو الضغط عليهم عبر أفراد عائلاتهم المحتجزين، وقد عززت هذه السياسة المزدوجة حالة من العزلة واليأس بين مجتمعات الشتات الإيغوري حول العالم.
بين الصمت والمحاسبة
مع حلول الذكرى الثالثة لتقرير الأمم المتحدة عن شينجيانغ، تبرز مطالب حقوقية بضرورة قيام المفوضية السامية بإصدار تحديث شامل، والضغط على الصين للإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المسؤولين، لكن الطريق يبدو معقدًا في ظل النفوذ الصيني داخل المؤسسات الدولية والانقسام بين الدول الأعضاء. ومع ذلك، ترى المنظمات الحقوقية أن مواصلة تسليط الضوء على الانتهاكات، والضغط من خلال العقوبات والتوثيق المستمر، تظل أدوات أساسية لمنع طمس القضية.
رغم الجهود الدعائية الصينية، تكشف الشهادات والإحصاءات أن القمع في شينجيانغ لا يزال متواصلًا على نطاق واسع، وأن محاولات "إخفاء الحقيقة" لم تفلح في طمس آثار واحدة من أكبر الأزمات الحقوقية في القرن الحادي والعشرين، ومع غياب موقف دولي موحد، يظل مستقبل الإيغور رهينًا بتوازن معقد بين نفوذ الصين العالمي وإصرار المنظمات الحقوقية والضحايا على كشف الحقيقة والمطالبة بالعدالة.