بين الجوع والإهانة.. حادثة اعتداء على نساء بلوشيات في إيران تكشف التمييز وتثير الغضب الشعبي
بين الجوع والإهانة.. حادثة اعتداء على نساء بلوشيات في إيران تكشف التمييز وتثير الغضب الشعبي
أثار مقطع فيديو صادم انتشر على نطاق واسع في إيران غضبًا شعبيًا عارمًا، بعدما أظهر جنديًا إيرانيًا يعتدي بالركل والشتائم على امرأتين مسنّتين من قومية البلوش عند معبر ميلك الحدودي في منطقة هيرمند، بمحافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرقي البلاد.
الحادثة التي وثقتها عدسات المارة ونشرها موقع "حال وش" الحقوقي المعني بأوضاع البلوش، أعادت إلى الواجهة قضية التمييز الممنهج والعنف الممارس ضد السكان الفقراء في هذه المنطقة المهمشة منذ عقود، وفق "إيران إنترناشيونال".
أظهر الفيديو الجندي وهو يركل إحدى المرأتين بقسوة وسط نظرات عدد من الجنود وموظفي المعبر الذين وقفوا دون تدخل، في مشهد ترك أثرًا موجعًا في الرأي العام الإيراني، خاصة بعد أن تبين أن المرأة كانت تحمل عبوة بلاستيكية صغيرة تحتوي على كمية من البنزين تقدر بـ1.5 لتر فقط، كانت تنوي بيعها لتأمين قوت يومها.
انتهاك حقوق المواطنة
ووفقًا لتقرير "حال وش"، فإن الجندي لم يكتفِ بالضرب بل وجّه للمرأتين إهانات وشتائم مهينة، ما دفع المنظمة إلى وصف الحادث بأنه انتهاك صارخ للمبادئ الإنسانية وميثاق حقوق المواطنة، مؤكدة أن ما حدث ليس استثناءً بل انعكاساً لواقع يُعامل فيه الفقر كجريمة.
وأشار التقرير إلى أن هذه الحادثة تجسد التفاوت الكبير في تعامل السلطات الإيرانية مع المواطنين، إذ يُلاحق الفقراء البلوش بسبب بيع بضعة لترات من الوقود، في حين يغض النظام الطرف عن شبكات تهريب ضخمة مرتبطة بمؤسسات أمنية وعسكرية، تجني أرباحًا هائلة من عمليات التهريب المنظّمة عبر الحدود.
توقيف المسؤولين واعتذار رسمي
في المقابل، سارعت السلطات الإيرانية إلى الإعلان عن توقيف المسؤولين عن الحادث في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، وأعلنت قائمقامية مدينة هيرمند اعتقال الجندي المعتدي وقائده المباشر، فيما أكد رئيس جهاز القضاء في محافظة بلوشستان إيران أن القضية “تخضع لتحقيق خاص ومتابعة عاجلة”.
كما أصدرت قيادة حرس الحدود في المحافظة بيانًا أوضحت فيه أن الحادثة وقعت في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم 22 أكتوبر داخل منفذ ميلك، وأنه تم التعرف على الجندي المعتدي واحتجازه بعد اتخاذ إجراءات انضباطية بحقه، مؤكدة إحالة ملفه إلى القضاء.
وفي ختام البيان، قدّمت القيادة اعتذارًا رسميًا إلى سكان محافظة بلوشستان.
لكن ردود السلطات لم تُقنع كثيرين، إذ اعتبر موقع" حال وش" الحقوقي أن ما جرى عرض شكلي يهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي، ونقل عن أحد الناشطين قوله إن الاعتقالات الرمزية والإعلانات الإعلامية لن توقف الانتهاكات المتكررة بحق الفقراء والمهمشين، وأضاف: لو كانت هناك محاسبة حقيقية، لما تكررت مثل هذه الحوادث كل عام.
على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر آلاف الإيرانيين عن صدمتهم من المشهد، ودعا كثيرون إلى محاكمة علنية للجندي وقائده، ورفع الصوت ضد ما وصفوه بثقافة الإهانة الممنهجة التي تمارسها أجهزة الدولة ضد الفئات المهمشة، خصوصًا من قومية البلوش الذين يعيشون في واحدة من أفقر مناطق إيران وأكثرها تهميشًا.
وتعتبر محافظة سيستان وبلوشستان من أكثر المحافظات حرمانًا في إيران، إذ تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وانقطاع متكرر للمياه، ونقص في الخدمات الصحية والتعليمية، وغالبًا ما يلجأ السكان إلى تهريب الوقود والبضائع كوسيلة للبقاء، في ظل غياب بدائل اقتصادية، لكن هذا النشاط، الذي يصفه الأهالي بأنه اقتصاد البقاء، يُقابل عادة بعنف مفرط من قوات الأمن التي تطلق النار أحيانًا على من تصفهم بناقلي الوقود غير الشرعيين.
انتهاكات موثقة
وقد وثّق موقع "حال وش" ومنظمات حقوقية أخرى خلال السنوات الأخيرة عشرات الحالات التي أطلقت فيها القوات الأمنية في إيران النار على رجال ونساء وأطفال من البلوش يعملون في نقل الوقود عبر الحدود، وتؤكد تقارير حقوق الإنسان أن هذه الحوادث غالبًا ما تُغلق دون محاسبة أو محاكمات شفافة.
تاريخيًا، يواجه أبناء قومية البلوش، ومعظمهم من المسلمين السنة، تمييزًا ممنهجًا في بلد يغلب عليه المذهب الشيعي، وتشير منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى أن السلطات الإيرانية تستخدم أدوات أمنية وقضائية لقمع أي شكل من أشكال الاحتجاج أو التذمر في الإقليم، بينما تهمّش مطالب السكان في التنمية والعدالة الاجتماعية.
ويرى باحثون أن الحادثة الأخيرة في معبر ميلك لا يمكن فصلها عن سياق أوسع من التوترات بين الدولة المركزية والمجتمعات الحدودية الفقيرة، فالمشهد الذي وثقته الكاميرات ليس فقط عنف جندي ضد امرأتين، بل صورة عن علاقة غير متوازنة بين سلطة مركزية ترى في الفقر تهديدًا، وسكانٍ يرون في العنف الرسمي تجسيدًا للظلم التاريخي.
ويرى مراقبون أن اعتذار حرس الحدود وتوقيف الجندي لن يكون كافيًا ما لم تُفتح ملفات الانتهاكات السابقة بحق البلوش، وتُتخذ إجراءات حقيقية لضمان محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا، فالكرامة الإنسانية، كما يقول ناشط بلوشي بارز، لا تُستعاد ببيان رسمي، بل بعدالة حقيقية.
وفي ظل تصاعد الغضب الشعبي داخل إيران وخارجها، تبقى حادثة معبر ميلك اختبارًا جديدًا لقدرة النظام الإيراني على مواجهة المظالم المتراكمة، ليس بالبيانات والعقوبات الشكلية، بل بإصلاح جذري يعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها، خاصة أولئك الذين يعيشون على الهامش حيث تُختبر إنسانية القوانين قبل شعاراتها.











