التايلانديون يودّعون "ملكة الإنسانية".. سيريكيت التي جعلت من العرش منصةً للدفاع عن اللاجئين
التايلانديون يودّعون "ملكة الإنسانية".. سيريكيت التي جعلت من العرش منصةً للدفاع عن اللاجئين
أعلن القصر الملكي في تايلاند، فجر السبت، وفاة الملكة الأم سيريكيت كيتياكارا عن عمر ناهز 93 عامًا، بعد صراعٍ طويل مع المرض وغيابٍ عن الأنظار دام لأكثر من عقد.
وقالت صحيفة الغارديان البريطانية إن الملكة الأم التي مثّلت لسنوات رمزًا للأمومة الوطنية والفضيلة في المجتمع التايلاندي، كانت تُعالج في أحد مستشفيات بانكوك منذ عام 2019، قبل أن تُصاب بعدوى في مجرى الدم في 17 أكتوبر وتفارق الحياة في وقت متأخر من يوم الجمعة.
وأعلنت السلطات الحداد لمدة عامٍ كامل على أفراد العائلة المالكة، في حين ألغى رئيس الوزراء أنوتين تشارنفيراكول رحلته إلى قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في ماليزيا عقب النبأ، في إشارة إلى حجم الرمزية التي تمثلها الملكة الراحلة في وجدان البلاد.
من باريس إلى بانكوك
وُلدت سيريكيت عام 1932، في العام ذاته الذي تحوّلت فيه تايلاند من نظام ملكي مطلق إلى ملكية دستورية، وهو تزامنٌ رمزي جعل حياتها امتدادًا لمسار الدولة نحو التوازن بين السلطة والتقليد.
كانت ابنة سفير تايلاند في فرنسا، وعاشت سنواتها الأولى في باريس، حيث درست الموسيقى واللغات، وهناك التقت الملك الشاب بوميبول أدولياديج الذي كان يدرس في سويسرا.
تقول سيريكيت في فيلم وثائقي بثّته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) إنها لم تُعجب به في لقائهما الأول، قبل أن يتحول النفور إلى علاقة حب أفضت إلى الزواج عام 1950، عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها فقط.
ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة ملكية امتدت لأكثر من سبعة عقود، لم تقتصر على المراسم الرسمية، بل حملت في طياتها تحولًا إنسانيًا نادرًا داخل مؤسسة ملكية تقليدية.
العمل العام واجب أخلاقي
بحسب الغارديان، لم تكن سيريكيت مجرد قرينة لملكٍ حكم 70 عامًا، بل شريكة في صياغة ملامح "الملكية الاجتماعية" التي تماهت مع الشعب عبر مشاريع التنمية والرفاه.
رافقت زوجها الملك بوميبول في زيارات متكررة إلى القرى النائية والمناطق الحدودية، وأسهمت في إطلاق برامج تنموية للفقراء والنساء الريفيات.
كانت تلك الزيارات تُبث مباشرة عبر النشرة الملكية اليومية، لتتحول إلى مدرسة في "التواصل الاجتماعي من داخل القصر".
وفي عام 1956، تولّت منصب الوصية على العرش مؤقتًا أثناء انخراط زوجها في طقسٍ بوذي تقليدي قضى خلاله أسبوعين في المعبد بصفته راهباً مبتدئاً، لتصبح بذلك أول امرأة تتولى هذا الدور في التاريخ التايلاندي الحديث.
الحق في العمل
تُشير "الغارديان" إلى أن الملكة الراحلة كانت وراء نهضة صناعة الحرير التايلاندي، بعد تعاونها مع مصمم الأزياء الفرنسي الشهير بيير بالمان.
تحوّل دعمها للحرف التقليدية إلى مشروع اقتصادي واجتماعي متكامل عبر تأسيس مؤسسة دعم (SUPPORT Foundation)، التي هدفت إلى تمكين النساء الريفيات من خلق مصادر دخل مستدامة من خلال إنتاج الحرف اليدوية والمنتجات المحلية.
وبهذا الدور، لم تُعرف سيريكيت بصفتها راعية للموضة فحسب، بل مناصرة مبكرة لحقوق المرأة في العمل اللائق والاستقلال المالي، قبل أن تترسخ هذه المفاهيم في السياسات الحكومية، في تلك المرحلة أصبحت الحِرفة وسيلة للكرامة، والحرير التايلاندي رمزًا لاقتصادٍ محلي تُديره النساء.
ذاكرة إنسانية
في عام 1976، أُعلن يوم ميلادها، الموافق 12 أغسطس، عيدًا وطنيًا للأم في تايلاند، في بادرةٍ تُعبّر عن المكانة العاطفية التي حظيت بها بين المواطنين، حيث كانت تُلقب بـ "الملكة الأم" حتى قبل رحيل زوجها، إذ ارتبط اسمها بالرحمة والرعاية والرؤية التي تجعل من السلطة مظلةً إنسانية للفقراء واللاجئين.
يقول أحد الباحثين في الشؤون التايلاندية إن "سيريكيت أعادت تعريف الملكية من كونها نظامًا مقدسًا إلى كونها مصدرًا للرعاية"، مشيرًا إلى أن مشاريعها الريفية كانت تتبنى منهجًا تنمويًا يرتكز على الحق في الكرامة الإنسانية.
ورغم أن الدستور التايلاندي يُقرّ أن الملكية "فوق السياسة"، لم يكن ذلك حاجزًا أمام تدخلات رمزية من العائلة المالكة في لحظات الأزمات.
ففي خطابٍ ألقته عام 1998، دعت سيريكيت مواطنيها إلى التوحد خلف رئيس الوزراء تشوان ليكباي، ما اعتبرته الغارديان "إشارة قوية لتأييد حكومي من القصر" أوقفت آنذاك نقاشًا برلمانيًا لحجب الثقة.
لاحقًا، ارتبط اسمها بـ تحالف الشعب من أجل الديمقراطية (PAD)، وهو تحالف ملكي قاد احتجاجات أطاحت بحكوماتٍ موالية لرئيس الوزراء السابق تاكسين شيناواترا.
وفي عام 2008، حضرت جنازة أحد المتظاهرين الذين سقطوا خلال اشتباكاتٍ مع الشرطة، ما فُسّر على نطاقٍ واسع دعماً رمزياً للتحركات الشعبية.
عززت هذه الإيماءات من صورتها بوصفها "صوتاً أخلاقياً" داخل مؤسسةٍ تحيطها القداسة، لكنها أيضًا فتحت الباب أمام تساؤلات حول الحدود بين الواجب الوطني والحياد السياسي.
إرثٌ إنساني يتجاوز القصر
لم يكن رحيل سيريكيت مجرد نهاية فصلٍ ملكي، بل نقطة مراجعة لتاريخٍ طويل من العمل الإنساني والتنمية الريفية، فمؤسسة "دعم" التي أسستها ما تزال تنشط حتى اليوم في تمكين النساء وتدريبهن على الحرف اليدوية.
أما جمعية الصليب الأحمر التايلاندي التي تولّت رئاستها منذ خمسينيات القرن الماضي، فما تزال تُنسب إليها بوصفها من وضعت أسس "العمل القريب من الضحايا"، خاصة خلال أزمة اللاجئين الكمبوديين في السبعينيات، حين وفّرت المأوى والرعاية لعشرات الآلاف من النازحين على الحدود.
وجعلت الملكة الراحلة من العمل الخيري مدخلًا لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن التنمية الريفية وسيلةً لترسيخ الحق في الكرامة والعمل والعيش الكريم، وهي مفاهيم لا تزال تلهم منظمات المجتمع المدني في تايلاند حتى اليوم.
وفى ختام تقريرها قالت "الغارديان" تُذكّرنا سيرة الملكة سيريكيت بأن إنسانية الحكم لا تُقاس بالمراسيم ولا بالألقاب، بل بالفعل القريب من الناس، حيث رحلت امرأة حملت لقب "الملكة الأم"، لكنها في جوهرها كانت أمًّا رمزيةً للفقراء واللاجئين والنساء المنسيات.
وبين قصور بانكوك وقرى الشمال التايلاندي، تركت وراءها إرثًا يقول إن السلطة قد تكتسب شرعيتها الحقيقية فقط عندما تحمي الحق في الكرامة.










