تحت وطأة التضخم.. ارتفاع تكاليف المعيشة يطحن محدودي الدخل في سوريا

تحت وطأة التضخم.. ارتفاع تكاليف المعيشة يطحن محدودي الدخل في سوريا
أحد الأسواق التجارية في سوريا- أرشيف

في وسط بلد تكبّله الحرب منذ أكثر من عقد، يعيش ملايين السوريين من ذوي الدخل المحدود يومياً معاناة متزايدة بسبب تفاقم التضخم وتدهور قيمة الليرة السورية، ومعهما تآكل القدرة الشرائية للرواتب في ظل أزمة اقتصادية هي الأشد منذ سنوات.

وتطرح معاناة هذه الطبقة سؤالاً واضحاً: كيف يمكن لشخص يكسب ما يقارب 3.5 مليون ليرة سورية شهرياً أن يواجه احتياجات أسرة من 5 أفراد، في حين تحتاج سلة الحاجات الأساسية إلى ما بين 9 و12 مليون ليرة شهرياً.

التقارير الأممية تشير إلى أن أكثر من 90 في المئة من السوريين الآن يعيشون تحت خط الفقر، وأن دخل الفرد السنوي انخفض إلى نحو 830 دولاراً في العام وفق أحدث بيانات البنك الدولي، وهذا الواقع يأتي بعدما شهدت سوريا، منذ 2011، تراجعاً ضخماً في الناتج المحلي، وفقداناً واسع النطاق لوظائف البسطاء، وتفككاً في الطبقة الوسطى التي كانت تشكّل العمود الفقري للمجتمع، وفق صحيفة "سوريا اليوم 24".

الانهيار المعيشي وتأثيره

يرتبط تراجع أوضاع هذه الفئة بعدّة عوامل مترابطة أولها تدهور العملة الوطنية والارتفاع الحاد في أسعار السلع والخدمات الأساسية، فوفق بيانات مركز الدراسات السوري SCPR، فإن الأجور في القطاعين العام والخاص تقع بنسب كبيرة تحت خطوط الفقر، على سبيل المثال، بين يونيو 2024، بلغ العجز في دخل موظف جامعي بالقطاع العام أكثر من 75 في المئة عن الخط الأدنى للفقر، كذلك، أشار تقرير مشترك لـ الإسكوا واليونيكتاد إلى أن قيمة الليرة السورية فقدت نحو ثلثي قيمتها خلال عام 2023، مع تضخم بلغ نحو 40 في المئة عام 2024. 

ثانياً، بنية الاقتصاد السوري التي كانت بالفعل مريضة قبل الحرب (مثل ضعف حصة الأجور من الناتج المحلي التي لم تتجاوز نحو 9.2 في المئة في عام 2011) تجعل الواقع اليوم أشد صعوبة، وفق استعراض وطني طوعي نشرته هيئة التخطيط والتعاون الدولي، فإن دخل أصحاب الأجور شكل جزءاً ضئيلاً من ثروة البلاد حتى قبل الصراع.

ثالثاً، ارتفاع تكاليف المعيشة أوصل الأسر في سوريا إلى مفترق صعب؛ فمثلاً متوسط الحاجة باعتبار ما بين 9 و12 مليون ليرة شهرياً يقابله دخل متوسط يراوح 3.5 مليون ليرة، ما يعني أن الأسرة تحتاج إلى نحو 60 في المئة إضافية من الدخل لتأمين احتياجاتها، وفيما ينفق نحو 40 في المئة على الغذاء وحده، فإن هذا المعدل أكبر من النسب العالمية المقبولة التي تشير إلى أن الإنفاق الغذائي لا ينبغي أن يتجاوز نحو 25 في المئة من إنفاق الأسرة.

تفاصيل معاناة واقعية

في ميدان الواقع، يبدأ يوم كثير من محدودي الدخل في سوريا بقلبٍ يقاسي، فقد ارتفع سعر ربطة الخبز التجاري إلى نحو 5 500 أو 6 000 ليرة، في حين أفادت مصادر بأن تكلفة إنتاجها تصل إلى نحو 8 500 ليرة، كما أن الهدف الحكومي بإعادة دعم الخبز التمويني لا يكفي لتعويض الفرق، الأسر البسيطة التي تحتاج إلى ربطتين يومياً تجد نفسها مضطرة لتقليص استهلاكها أو اقتطاع مبالغ من بند التدفئة أو الغذاء.

وعند النظر إلى النفقات الأخرى، يبلغ سعر ليتر البنزين من نوع (90 أوكتان) نحو 12980ليرة، ومازوت 11210ليرة، أما أسطوانة الغاز المنزلي فتبلغ نحو 140 ألف ليرة، مع هذا العبء، تصبح الخيارات أمام الأسرة ضيقة: تخفيض عدد وجبات الطعام، أو تأجيل شراء الملابس، أو الاعتماد على القطع المستعملة التي بلغت أسعارها بين 40 و100 ألف ليرة.

التبعات الإنسانية والمجتمعية

يتعدى الانهيار الاقتصادي الجانب المالي إلى جوانب إنسانية شديدة الحساسية، فقد أصبحت قضية الإرهاق النفسي والقلق الدائم حاضرة في أوساط الأسر ذات الدخل المحدود، والنساء، بشكل خاص، تتحملن عبئاً مزدوجاً؛ تأمين احتياجات الأسرة والمواجهة اليومية لتدهور الأوضاع الاقتصادية، وفق تقرير الأمم المتحدة، تواجه الأسر التي ترأسها نساء صعوبة مضاعفة في تلبية الاحتياجات الأساسية. 

كما أن انتشار الفقر المدقع وتخلي الطبقة الوسطى عن دورها التقليدي يؤدي إلى تفكك المجتمعات وانعدام الأمل لدى الشباب، وهذا يؤثر على فرص التعليم والتوظيف والمشاركة الاقتصادية، ويضع البلاد أمام تحدٍ خطير في إعادة بناء ما تبقى من قدراتها التنموية.

ومن منظور اجتماعي، فإن معدلات البطالة المرتفعة وانعدام الأمان المالي تجعل الأسر تلجأ إلى استراتيجيات بقاء قد تكون خطرة مثل الازدواجية في العمل، أو تقليص الطعام، أو بيع الممتلكات، وقد لفت تقرير لهيئة شؤون سوريا التابع للحكومة البريطانية الانتباه إلى أن الدخل لا يغطي سوى عشرة في المئة من سلة الاحتياجات الدنيا في بعض المناطق.

ردود المنظمات المحلية والدولية

على الصعيد الدولي، لاحظت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات التنمية أن سوريا تواجه ركوداً في التقدم التنموي مع انتكاسات اقتصادية كارثية فقد أشار تقرير للبنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي السوري انخفض بأكثر من 50 في المئة منذ عام 2010، وأن دخل الفرد بات أقل من 830 دولاراً سنوياً، ومن جانبها، نقلت المؤسسة السورية لأبحاث السياسات أن الأجور لا تزال أدنى من خطوط الفقر، وأن ذلك ينطبق حتى على الحاصلين على تعليم جامعي. 

المنظمات الحقوقية المحلية تشير إلى أن السياسات الاقتصادية التي تقلّص من الأجور وترفع الأسعار دون حماية مؤسساتية تؤدي إلى تجويع للطبقات الأضعف وتشجيعاً لتفكيك دور الدولة في الحماية الاقتصادية، ولا توجد حتى الآن مؤشرات واضحة على تدخل حكومي فعلي لتأمين حدّ أدنى ثابت للدخل يتماشى مع التضخم المتواصل.

تحديات تاريخية ومستقبلية

قبل عام 2011 كانت سوريا تواجه تحديات بنيوية في سوق العمل وغياب تكامل اقتصادي كامل، لكن القدرة الشرائية للأسرة لا تزال أقل بكثير مما أصبحت عليه بعد الحرب، ففي عام 2011 أظهرت بيانات أن أصحاب الأجور (90 في المئة من المجتمع تقريباً) كانوا يحصلون على حصة لا تتجاوز نحو 9.2 في المئة من الناتج المحلي، ما يؤشر إلى هشاشة وضعهم حتى قبل الصراع.

منذ اندلاع النزاع حالت عدة عوامل دون انتعاش الاقتصاد في سوريا منها: النزاع المسلح، العقوبات الدولية، تدمير البنى التحتية، وانكماش الاستثمار، ومع تحرير بعض المناطق وتغيّرات سياسية قادمة، تظل التحديات الجوهرية متراكمة، لاسيما في ما يتعلق بإصلاح العملة، وخلق فرص عمل حقيقية، وضمان استقرار الأسعار.

الخطوات المقترحة لمواجهة الأزمة

في ظل الوضع الراهن، يحتاج محدودو الدخل إلى تدخلات شاملة تشمل السياسة الاقتصادية والاجتماعية تتضمن عدة نقاط منها: أولاً، من الضروري رفع الأجور بما يتماشى مع التضخم، وإقرار حوافز حماية اجتماعية لعائلات الدخل المحدود، وثانياً، ينبغي توسيع برامج دعم السلع الأساسية وتخفيض تكاليف الطاقة والخبز وتثبيت أسعار بعضها مؤقتاً، وثالثاً، تعزيز فرص العمل، خصوصاً من خلال تنمية الاقتصاد المحلي والمشاريع الصغيرة التي يمكن أن تولد دخلاً مستقلّاً للأسر.

كما يُوصى بإطلاق حملات توعية حول إدارة النفقات الأسرية وزراعة الخضروات المنزلية كما تشير بعض الاقتراحات، وتحسين الكفاءة في استهلاك الوقود والكهرباء لتخفيف العبء المالي. لكن الأهم هو أن تكون هذه الإجراءات ضمن خطة وطنية للإنقاذ الاقتصادي والإنساني تشاركيّة تضم الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي.

مع تآكل القوة الشرائية وتراجع الدخل الأسرى، باتت حياة ملايين السوريين من محدودي الدخل عبارة عن سباق يومي للبقاء، وليس الأمر محصوراً في الأرقام والإحصاءات بل يمتد إلى فقدان الأمان الاجتماعي، والمعاناة النفسية، وتراجع الأمل في المستقبل، لا يمكن أن تُحَلّ الأزمة الاقتصادية دون أن يُعترف بأن هناك شعباً يُصارَف عليه يومياً وأن السياسات الاقتصادية يجب أن تضعه في مركز الاهتمام، وحياة هذه الطبقة ليست أرقاماً بل إنساناً ينام فقيراً ويستيقظ مهدداً بالتشرد، والتحدي الذي تواجهه سوريا اليوم ليس فقط إعادة الإعمار، بل إعادة كرامة تلك الأسر التي شكلت أساس البلد ولا تزال الانتفاضة نحو الاستقرار تبدأ من حقيقتها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية