حنعمرها تاني.. نداء يتردد في شوارع غزة مع بدء أكبر حملة تنظيف وإزالة لأنقاض الحرب
حنعمرها تاني.. نداء يتردد في شوارع غزة مع بدء أكبر حملة تنظيف وإزالة لأنقاض الحرب
في صباح بدا مختلفا عن كل صباحات الأشهر الماضية، وقف عشرات العمال والمتطوعين وسط مدينة غزة يتبادلون النظرات الممزوجة بالأمل والرهبة، هناك، وسط ما تبقى من شوارع كانت تضج بالحياة، انطلقت أول حملة واسعة لإزالة الأنقاض والركام الذي خلفته الحرب، لم يكن المشهد مجرد نشاط ميداني، بل كان أشبه بمحاولة جماعية لإعادة نبض المدينة، وكأن كل من رفع حجرا كان يحاول رفع ثقل أسابيع طويلة من الألم عن صدر غزة.
تحت شعار "حنعمرها تاني" وقف ممثلو منظمات محلية ومسؤولون من وكالات الأمم المتحدة يراقبون حركة الجرافات والشاحنات التي بدأت تشق طريقها بين المباني المنهارة، بدا الشعار بسيطا، لكنه حمل بين كلماته وعدا كبيرا يتجاوز حدود اللغة، وعد بأن هذه المدينة التي احترقت أكثر مما احتملت ستجد طريقا ما للعودة إلى الحياة وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.
روح مشتركة لإعادة البناء
تجمع الحاضرون في وسط المدينة لحفل رمزي لم يَخلُ من المهابة، كان بينهم متطوعون عادوا قبل أيام من النزوح، شباب فقدوا بيوتهم لكنهم لم يفقدوا رغبتهم في المساهمة في إعادة إعمار ما تهدم من غزة، وسكان قرروا أن العودة إلى مدينتهم ليست مجرد خيار بل حقاً يجب الدفاع عنه، شارك أيضا ممثلو السلطات المحلية والجمعية الفلسطينية لمنظمات المجتمع المدني وغرفة التجارة في مشهد جمع بين المؤسسات الرسمية وصوت الناس العاديين.
ومن بين الحضور ظهر أليساندرو ماراكيتش، مدير مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في غزة، وهو يتجول بين العاملين ويصافح بعضهم، صرح بأن وجوده وسط الناس هو رسالة بأن المجتمع الدولي مستعد للوقوف إلى جانب أهالي غزة في أولى خطوات إعادة الإعمار، وأضاف أن البرنامج يعمل يوميا على جمع النفايات الصلبة وإن الاستعدادات جارية لمواجهة فصل الشتاء بما يتطلبه من إدارة دقيقة للمياه والصرف الصحي، لكنه توقف لبرهة ثم قال بلهجة بدت أقرب إلى ما يشعر به الناس هنا إننا نعطي لهذه المدينة فرصة كي تستعيد كرامتها قبل أي شيء آخر.
صدى الأمل في كلمات المشاركين
كان أمجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، من بين من تحدثوا عند إطلاق الحملة، حيث وقف أمام الحاضرين وقال إن الوقت قد حان كي يعمل الجميع معا من أجل إنهاء هذا الكم الهائل من المعاناة، وشدد على أن رسالة الحملة تتجاوز إزالة الركام، فهي تعلن أن أهل غزة ما زالوا متمسكين بالحياة مهما تعددت الجراح, وأضاف أن وجود فرق متخصصة للتعامل مع كميات هائلة قد تصل إلى ستين مليون طن من الركام يشكل بارقة أمل حقيقية، فكل خطوة في عملية الإزالة تقرب المدينة أكثر من لحظة النهوض.
ولم تكن هذه الكلمات مجرد خطاب احتفالي، فقد بدت كأنها محاولة لطمأنة الناس الذين شهدوا أحياء كاملة تتحول إلى مساحات رمادية من الغبار، كثير من المشاركين تحدثوا عن رغبتهم في أن تكون هذه الحملة بداية لسلسلة طويلة من الجهود التي تعيد إلى غزة شكلها الطبيعي، كانوا يرون أن إزالة الأنقاض ليست مجرد عملية تقنية بل هي عملية تحرير لذكرياتهم وأماكنهم وأحلامهم التي خبأوها تحت الركام.
عمل على الأرض لإعادة الحياة
مع الساعات الأولى للحملة انتشرت الجرافات في الشوارع التي كانت مغلقة منذ شهور، بدأت الشاحنات بنقل الأنقاض التي تراكمت حتى صارت جزءا من ملامح المدينة، وشارك عشرات العمال في رفع الركام بأيديهم، وراح عدد من المتطوعين ينظفون الساحات العامة والمناطق المهدمة لاستعادة قدرة الناس على الحركة والعيش، وبدا المشهد كأنه إعلان بأن المدينة تقرر أخيرا أن تتحرك رغم كل الظروف.
داخل بعض الأحياء وقف سكان ينظرون بصمت إلى ما يحدث، كانت وجوههم تحمل مزيجا من الحذر والأمل، وكأنهم يريدون أن يصدقوا أن مرحلة جديدة تبدأ فعلا، وتحدث أحد المتطوعين قائلا إنه يريد أن يرى الأطفال يلعبون في الشوارع من جديد، بينما قالت امرأة كانت تحمل مكنسة بيدها إنها عادت إلى بيتها المدمر لأنها تريد أن تشم رائحته حتى لو لم يبق منه سوى الجدران.. هذه القصص الصغيرة كانت تعطي معنى أكبر لما يجري على الأرض.
أهمية الحملة في لحظة حساسة
تشكل إزالة الركام خطوة أولى وأساسية لبدء أي عملية إعادة إعمار حقيقية، فالكميات الضخمة من مخلفات الحرب تجعل من الصعب على سكان المدينة التنقل أو ترميم منازلهم أو تشغيل البنية التحتية الأساسية، كما أن تراكم الأنقاض يعطل عودة الخدمات العامة ويمنع عمليات الإنقاذ والبحث عن ما تبقى من ممتلكات يمكن إنقاذها. لذلك جاءت هذه الحملة كإشارة مبكرة إلى أن عملية التعافي بدأت، ولو ببطء.
في هذه المرحلة الحساسة، تبدو مشاركة المؤسسات الدولية والمحلية أمرا ضروريا لتنسيق الجهود وتوفير المعدات والدعم الفني، ويؤكد مختصون ميدانيون أن التعامل مع الركام بهذا الحجم يتطلب خبرات تقنية متقدمة وفرق استجابة مدربة، إضافة إلى موارد مالية كبيرة، ومع ذلك فإن وجود المتطوعين وسكان المدينة في الخط الأمامي للعمل يعطي للحملة طابعا إنسانيا يعكس إصرار الناس على استعادة مدينتهم بأيديهم.
شهد قطاع غزة خلال السنوات الماضية دمارا غير مسبوق نتيجة الحروب المتكررة التي ضربته، وتعرضت البنية التحتية لأضرار شاملة طالت المساكن والمستشفيات والمحال التجارية والطرق، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن حجم الركام الناتج عن الحرب الأخيرة يصل إلى عشرات الملايين من الأطنان، وهو رقم يجعل من عملية الإزالة واحدة من أكثر المهمات تعقيدا في تاريخ عمليات التعافي بعد النزاعات، وتعاني غزة من نقص حاد في المعدات الثقيلة والوقود والمواد الأساسية، وهو ما يعوق سير العمل في مجالات الصحة والمياه والصرف الصحي والإسكان والخدمات البلدية، وعلى الرغم من استمرار الجهود الإنسانية، فإن إعادة إعمار القطاع لا تزال مرتبطة بانفراج سياسي وبدعم مالي دولي واسع، ومع ذلك أثبتت الحملات المجتمعية داخل غزة أن السكان قادرون على قيادة مبادرات حقيقية لإعادة الحياة إلى مدينتهم، وأن أول خطوة في رحلة الإعمار تبدأ من قرار الناس بأن ينهضوا مهما كان حجم الركام فوق رؤوسهم.











