الهجرة والانفلات الأمني يخيّمان على انتخابات تشيلي وسط تصاعد القلق الأمني
الهجرة والانفلات الأمني يخيّمان على انتخابات تشيلي وسط تصاعد القلق الأمني
تفاقم شعور سكان مدينة أريكا الحدودية في شمال تشيلي بالخوف والترقّب مع اقتراب موعد الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، في ظل تزايد واضح في معدلات الجريمة وتدفّق المهاجرين غير النظاميين عبر الحدود الشمالية للبلاد.
وتحوّلت شوارع المدينة المطلة على ساحل المحيط الهادئ إلى مساحة نقاش ساخن بين السكان، الذين باتوا يربطون بين تفاقم مظاهر العنف وغياب الرقابة الحدودية، في وقت يعيش فيه عدد كبير من العائلات حالة من الهلع وانعدام الشعور بالأمان، خصوصاً مع حلول الليل.
وتمثّل، بحسب ما نقلته وكالة فرانس برس، السبت، هذه الانتخابات نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ تشيلي السياسي الحديث، إذ تواجه المرشحة اليسارية جانيت خارا منافسها اليميني المتطرّف خوسيه أنطونيو كاست، الذي بنى حملته الانتخابية على خطاب متشدّد تجاه ملف الهجرة والأمن.
وتعهد كاست، وفق تصريحاته العلنية، بترحيل ما يقرب من 337 ألف أجنبي يقيمون في البلاد بطريقة غير نظامية، ملوّحاً بتشديد الإجراءات العسكرية والأمنية على طول الحدود، وهو ما أثار موجة من الجدل بين مؤيدين يرونه “منقذاً من الفوضى”، ومعارضين يخشون من عودة عقلية القمع والانغلاق.
موقع استراتيجي مأزوم
تقع مدينة أريكا، التي يبلغ عدد سكانها نحو 250 ألف نسمة، وسط صحراء أتاكاما القاحلة وعلى مقربة من أحد أهم المعابر الحدودية في شمال البلاد، ما جعلها نقطة جذب رئيسية للمهاجرين القادمين من فنزويلا ودول أخرى في أميركا اللاتينية.
وشهدت المدينة، منذ عام 2020، تزايداً كبيراً في أعداد العابرين عبر طرق سرية لتجنّب نقاط التفتيش الرسمية، حيث انتقل عدد المهاجرين من نحو 200 شخص عام 2018 إلى ما يقارب خمسة آلاف عام 2023، وفق بيانات إدارة الهجرة التشيلية، وهو ما فاق قدرة المدينة على الاستيعاب والخدمات.
وشهدت أريكا ارتفاعاً صادماً في معدلات الجريمة، بعدما تصاعد نشاط عصابات إجرامية عابرة للحدود، أبرزها عصابة “ترين دي أراغوا” الفنزويلية، التي سيطرت على منازل مهجورة في بعض الأحياء الفقيرة وحوّلتها إلى أوكار للجريمة والتعذيب والاتجار بالبشر.
وروى عنصر الحراسة، واصفاً حجم الصدمة، ألفونسو أغوايو (49 عاماً) أن الاغتيالات المأجورة والخطف كانت أموراً غير مألوفة سابقاً في المدينة، لكنها باتت اليوم جزءاً من المشهد اليومي الذي يرعب العائلات ويقضّ مضاجع السكان.
أرقام صادمة
ارتفعت نسبة جرائم القتل في أريكا من 5.7 حالة لكل 100 ألف نسمة عام 2019 إلى 17.5 عام 2022، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف المتوسط الوطني، قبل أن تنخفض نسبياً إلى 9.9 في العام الماضي، إلا أنها ظلّت أعلى من المعدّل العام لتشيلي الذي يبلغ 6.6.
وكشفت حملة أمنية عام 2022 عن مراكز تعذيب ومقابر سرية خلفتها العصابة، وانتهت بسلسلة أحكام قضائية بلغت مجموعها 560 عاماً بحق 31 شخصاً من الجنسية الفنزويلية وثلاثة تشيليين، في إحدى أكبر القضايا الجنائية التي شهدتها المنطقة.
اتجه، في الدورة الأولى من الانتخابات التي جرت في 16 نوفمبر/تشرين الثاني، نحو ثلاثة أرباع أصوات سكان أريكا إلى مرشحي اليمين، وفي مقدمتهم الخبير الاقتصادي فرانكو باريزي، الداعي إلى إجراءات صارمة تشمل حتى زرع ألغام على الحدود، وهو ما عكس تحوّلاً جذرياً في المزاج الشعبي مدفوعاً بالخوف والرغبة في استعادة الشعور بالأمان.
وربط كثير من السكان بين اختيارهم الانتخابي وتصاعد الجرائم، مؤكدين أن الأمن بات الأولوية القصوى، حتى على حساب المبادئ الإنسانية.
وجه آخر للهجرة
أشار، معلّقاً على الصورة النمطية السائدة، المعلّم المتقاعد فيرمين بورغوس (75 عاماً) إلى أن الهجرة لا تعني بالضرورة الجريمة، مؤكداً أن امرأتين فنزويليتين تعملان في مطعمه رغم وضعهما غير النظامي، لكنهما مثال للالتزام والاجتهاد.
واعتبر أن المشكلة ليست في الجنسية وإنما في السلوك الفردي، داعياً إلى التمييز بين المجرمين الحقيقيين والمهاجرين الباحثين عن فرصة حياة كريمة بعد سنوات من الفقر والانهيار في بلدانهم.
أعربت، متحدثةً بمرارة، عاملة المبيعات الفنزويلية فرنير روندو (35 عاماً) عن أسفها لتحوّل نظرة المجتمع تجاه الأجانب، مشيرة إلى أن الكراهية لم تكن موجودة في السابق، وأن الجميع اليوم “يدفع الثمن” بسبب تصرفات فئة قليلة.
وأكدت أن كثيراً من المهاجرين يعملون في ظروف صعبة في القطاع غير الرسمي، ويسهمون في دعم الاقتصاد المحلي، فيما يستفيد أطفالهم من التعليم ويحصلون على الرعاية الصحية الأساسية.
دعامة للقطاع الصحي
أوضحت، مشيرةً إلى واقع عملي ملموس، مديرة دائرة الصحة البلدية في أريكا كلاوديا فييغاس أن المهاجرين يشكّلون اليوم عنصراً لا غنى عنه في القطاع الصحي، لافتةً إلى أن ما يقارب 5.8% من أطباء تشيلي هم من الأجانب.
وبيّنت أن المناطق القاسية والنائية مثل أريكا تعاني نقصاً في الكوادر المحلية، ما يجعل استقدام المهاجرين ضرورة لتأمين الحد الأدنى من الخدمات الصحية للسكان، مؤكدة أن الحل لا يكمن في الإقصاء، بل في التنظيم والرقابة والدمج المسؤول.
وتتجه، مع اقتراب لحظة الحسم الانتخابي، أنظار سكان أريكا وتشيلي بأكملها إلى صناديق الاقتراع التي ستحدد المسار المقبل للبلاد.. إما نحو تشديد أمني صارم قد يحدّ من الفوضى، أو نحو مقاربة إنسانية تسعى إلى معالجة جذور الأزمة دون المساس بالكرامة الإنسانية.
وبين الخوف والأمل، تبقى المدينة الحدودية شاهدة على واحدة من أعقد القضايا المعاصرة في العالم: صراع الأمن مع الهجرة… وصراع السياسة مع الإنسان.










