"لا رجعة للوراء".. إيرانيات يرين "الحجاب الإلزامي" أداة لتشتيت الانتباه عن أزمات أعمق

"لا رجعة للوراء".. إيرانيات يرين "الحجاب الإلزامي" أداة لتشتيت الانتباه عن أزمات أعمق
مهسا أميني وأزمة الحجاب في إيران

أظهرت نساء إيران في السنوات الأخيرة إصراراً متزايداً على تحدي قوانين اللباس الإلزامي، في سياق اجتماعي وسياسي متوتر أعقب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، ووسط محاولات رسمية لإعادة فرض الانضباط العام عبر أدوات قانونية وأمنية.

ويعكس هذا التحدي، تحولات ملموسة في سلوك النساء ومواقفهن تجاه سلطة الدولة، دون أن يعني ذلك بالضرورة تراجعاً رسمياً عن القوانين السارية.

تسرد صحيفة "الغارديان" ،الأربعاء، في تقرير موسع شهادات لنساء إيرانيات يصفن واقعاً يومياً تتزايد فيه مظاهر خلع الحجاب في الأماكن العامة، لا سيما في شوارع العاصمة طهران، حيث تنشر شابات مقاطع فيديو على الإنترنت تظهرهن وهنّ يمشين دون غطاء للرأس.

تربط الصحيفة هذا السلوك بمرحلة ما بعد مقتل مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عاماً، التي احتجزتها "شرطة الآداب" بسبب قواعد اللباس، وهو ما فجّر موجة احتجاجات غير مسبوقة قوبلت بحملة قمع أسفرت عن مقتل المئات وإصابة الآلاف.

وتبدو السلطات الإيرانية، رغم تشديد الإطار القانوني، مترددة في اللجوء إلى اعتقالات جماعية واسعة، خشية إعادة إشعال الاضطرابات الشعبية، هذا التردد لا يعكس قبولاً اجتماعياً بالتحدي، بقدر ما يعكس حسابات أمنية وسياسية دقيقة في بلد لا تزال آثار الاحتجاجات حاضرة فيه بقوة.

قانون "الحجاب والعفة"

يفرض قانون "الحجاب والعفة"، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2024، عقوبات صارمة على النساء اللواتي يُضبطن مخالفات لقواعد اللباس، تشمل غرامات تصل إلى 12500 جنيه إسترليني، والجلد، والسجن لمدد تراوح بين خمس وخمس عشرة سنة في حال تكرار المخالفات.

ولا يقتصر القانون على العقوبات المباشرة، بل يتضمن آليات مجتمعية للرقابة، عبر منصة إبلاغ مدعومة من الدولة تشجع الأفراد على أن يصبحوا "مراقبي حجاب".

تنقل الصحيفة تصريح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، في ديسمبر، الذي عدّ فيه الحجاب ضرورياً "للحفاظ على كرامة المرأة وكبح الرغبات الجنسية الخطرة"، معتبرة أن هذا التصريح مثّل إشارة سياسية لإطلاق حملة جديدة لتشديد إنفاذ قوانين اللباس.

وترصد "الغارديان" تصاعد الإجراءات الأمنية عقب هذا التصريح، مشيرة إلى توقيف منظمي سباق ماراثون في جزيرة كيش واتهامهم بـ"الإخلال بالآداب العامة" بسبب السماح لنساء بالمشاركة دون حجاب. 

وتضع الصحيفة هذه الحادثة ضمن سلسلة إجراءات تهدف إلى إعادة ضبط المجال العام، في وقت تؤكد فيه نساء تحدثن إليها أن الرأي العام لم يعد كما كان.

تقول الصحفية هدى، المقيمة في طهران، إن النساء لم يحتجن يوماً إلى إذن رسمي لتقرير ما يرتدينه، معتبرة أن ما يجري اليوم هو نتيجة تراكم لعدم الاكتراث بخطاب السلطة، وتربط هدى بين تشديد ملف الحجاب وبين أزمات أخرى تعانيها البلاد، من نقص المياه إلى الاحتجاجات العمالية، معتبرة أن التركيز على اللباس يشكل وسيلة لتشتيت الانتباه عن أزمات أعمق.

حسابات أمنية

من جانبها، تُظهر صحيفة "واشنطن بوست" صورة ميدانية مشابهة، من خلال وصف مشاهد لنساء يتحركن في الفضاء العام دون حجاب، في طهران ومدن أخرى، معتبرة أن هذه السلوكيات باتت أكثر شيوعاً بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على احتجاجات مهسا أميني.

وتؤكد الصحيفة، استناداً إلى مقابلات ومقاطع فيديو، أن التحدي لم يعد محصوراً في العاصمة، بل امتد إلى مدن أصغر مثل رشت، ومناطق أكثر محافظة مثل كرمانشاه وهمدان ودزفول.

وتوضح أن الحجاب يشكل ركيزة أيديولوجية للنظام الإيراني منذ عام 1979، وأن القوانين الملزمة به لا تزال قائمة، وإن كان تطبيقها يتسم بالتفاوت.

وتنقل الصحيفة عن نساء إيرانيات قولهن إنهن لم يشهدن في الأشهر الأخيرة ممارسات شرطية قمعية مشابهة لتلك التي سبقت وفاة أميني، حين كانت الاعتقالات العلنية مشهداً متكرراً.

تصف الصحيفة شهادة مرجان، البالغة من العمر 49 عاماً، التركيز اليومي للسلطات على ملابس النساء بوصفه عبئاً دائماً، مؤكدة أن الأمر لم يصبح طبيعياً بالنسبة لها رغم اعتياده، وتوضح الصحيفة الأمريكية أن نساء كثيرات تحدثن بشروط عدم الكشف عن هوياتهن، خشية التعرض لعقوبات بسبب الحديث إلى وسائل إعلام أجنبية.

وتقر الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين إيرانيين، بأن تخفيف تطبيق قواعد الحجاب يعود إلى مخاوف من اندلاع موجة جديدة من الاضطرابات، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وأزمة مياه حادة، وعقوبات دولية مشددة.

وتضيف أن هذا التخفيف شكّل متنفساً مؤقتاً للضغط الشعبي، خصوصاً بعد الضربات العسكرية التي استهدفت إيران وأسهمت في زيادة الاستياء العام.

رسائل متناقضة

تستعرض "واشنطن بوست" ما تصفه برسائل متضاربة من السلطات، حيث خففت الشرطة من الاعتقالات، في حين واصلت مؤسسات أخرى استخدام أدوات مختلفة لتعزيز ما تعده "حشمة لائقة".

وتنقل الصحيفة عن مركز حقوق الإنسان في إيران توثيقه إغلاق ما لا يقل عن 50 متجراً ومقهى ومطعماً بين يونيو وأكتوبر بسبب السماح بحضور نساء غير محجبات.

تقول مديرة قسم المناصرة في المركز، بهار غندهاري، إن تفاوت التطبيق لا يلغي خطورة بقاء القوانين، مؤكدة أن حقوق النساء وحرياتهن تظل مهددة طالما استمر الإطار القانوني على حاله.

وترصد "واشنطن بوست" وقائع داخل الجامعات، من بينها استدعاء طالبات في جامعة يزد بسبب ملابسهن، وفق منشورات لناشطة طلابية، وتضع ذلك ضمن سياق أوسع من الرقابة المؤسسية التي تتجاوز الشارع إلى الفضاءات التعليمية.

تشرح الصحيفة تعقيد البنية السياسية الإيرانية، حيث يرأس الرئيس مسعود بيزشكيان الجزء المنتخب من السلطة، في حين يعين المرشد الأعلى قائد الشرطة، وهو ما يخلق تفاوتاً في الرسائل والتنفيذ، وتنقل تصريح رئيس فرع طهران لهيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" حول تدريب أكثر من 80 ألف شخص في إطار وحدة "العفة والحجاب"، مقابل نفي الحكومة تخصيص ميزانية واضحة لهذه الوحدة.

مقاومة يومية

تصف واشنطن بوست كيف تتعامل نساء مثل مرجان مع هذا الواقع، عبر خلع الحجاب في الأماكن العامة مع مراعاة تجنب الإضرار بالآخرين، مثل ارتدائه عند استخدام سيارات الأجرة خشية مصادرة المركبات، وتربط الصحيفة هذا السلوك بما تعده نقطة تحول مركزية تمثلت في احتجاجات 2022 التي رفعت شعار "امرأة، حياة، حرية".

كما تنقل "الغارديان" قول صاحبة مشروع تجاري في شيراز إن المدينة تشهد حيوية غير مسبوقة، معتبرة أن اختيار النساء لملابسهن يعكس شجاعة جماعية لا إصلاحاً رسمياً.

وعن طالبة في إقليم كردستان تحذيرها من أن تشديد تطبيق الحجاب في طهران قد يستخدم ذريعة لتوسيع الاعتقالات في المناطق الكردية، وربطها ذلك باستهداف أوسع على أساس الهوية.

وتؤكد نائبة مدير منظمة نشطاء حقوق الإنسان في إيران، سكايلر تومسون، أن السلطات تفتقر إلى القدرة على فرض القوانين بشكل متسق، وأن أي استفزاز بسيط قد يشعل اضطرابات جديدة، في ظل ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية متراكمة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية