صباح فخري.. رحيل سيد الموشحات وحارس التراث

صباح فخري.. رحيل سيد الموشحات وحارس التراث

 

على أنغام كلمات “ومالك يا حلوة مالك”، و”خمرة الحب”، و”يا طيرة طيري” عاش العرب لأكثر من نصف قرن يستمتعون بصوت الفنان السوري الكبير صباح فخري، الذي توج الموال ووصل به إلى مكانة لم يصل إليها غيره، بعدما تحولت أغانيه إلى روائع تتردد في مختلف البلدان، والمسارح، وسيطرت أعماله على مسامع محبيه، الذين يرون في وفاته اليوم الثلاثاء، فقداناً لقلعة حلب الثانية.

 

اكتشف أهل صباح فخري صوته منذ نعومة أظفاره حيث يروي هو نفسه كيف كان يتعمد أحد أقربائه إيقاظه في طفولته عبر “قرصه” لأنه يحب سماع صوته حتى وهو يبكي.

 

صقل صباح الدين أبوقوس، وهو الاسم الأصلي للفنان، صوته في حارة الأعجام داخل قرية القصيلة في أحد أحياء حلب القديمة حيث كان محاطاً بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية.

 

وفي سن مبكرة تمكن الطفل صباح الدين من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب والحلقات النقشبندية مفتتحاً أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى.

 

اشتد عود صباح الدين وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك، مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.

 

وتمكن الطفل صباح الدين من دخول المدرسة الحكومية الحمدانية في حلب، وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة، قبل أن يعلن الفنان سامي الشوا رعايته إيماناً منه بقدرته الكبيرة على إتقان فنون الغناء بصوت “عبقري” كما وصفه في إحدى المرات.

 

ولم يكد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي، خلال زيارته حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.

 

رفض صباح العرض الذي قدم له بالسفر إلى مصر آنذاك لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. في وقت أسس فيه السياسي المخضرم النائب فخري البارودي معهداً للموسيقى في دمشق، ومن شدة إعجابه بصوت محمد صباح أطلق عليه في إحدى الحفلات الغنائية اسمه ليصبح صباح فخري.

وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يناهز 14 عاماً وكانت أنشودة “يا رايحين لبيت الله، مع السلامة وألف سلام”.

 

لكن انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء حتى قال فخري نفسه إنه كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته.. “إنه ليس صوتي.. لست أنا، ما الذي حصل؟”.

وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مُكرَهاً، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شاباً يافعاً.

 

مع اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكاناً بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها، بعدما تخرج في المعهد الموسيقي الشرقي عام 1948، بعد أن درس الموشحات والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود.

 

وعاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح وهناك قدم الموال بالقدود الحلبية وغنى “مالك يا حلوة مالك” و”يا مال الشام ويا الله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي”.

غنى فخري العديد من أغاني حلب التقليدية، المأخوذة كلماتها من قصائد “أبوفراس الحمداني” والمتنبي وشعراء آخرين، منها: يا حادي العيس، وخمرة الحب، وفوق النخل، وقدك المياس، ويا مال الشام، وموشحات: يا شادي الألحان، وابعتلي جواب، وآه يا حلو، ومن أعماله السينمائية فيلم “الوادي الكبير” مع المطربة وردة الجزائرية، كما شارك في فيلم “الصعاليك” عام 1965 مع عددٍ من الممثلين مثل دريد لحام ومريم فخر الدين، ومن برامجه التلفزيونية “أسماء الله الحسنى” مع عبدالرحمن آل رشي، ومنى واصف، وزيناتي قدسية، ومسلسل “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ووثق ما يقارب 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، ليحافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تنفرد به حلب، ويذكر له أنه حطم الرقم القياسي في الغناء عندما غنى في مدينة كاركاس بفنزويلا مدة 10 ساعات دون انقطاع عام 1968.

شغل فخري مناصب عدة، منها: نقيب الفنانين السوريين ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب وسفير الغناء العربي، وحصل على عدد كبير من الجوائز وشهادات التقدير من جامعاتٍ وهيئاتٍ عدة؛ تقديراً لجهوده المبذولة في إحياء التراث العربي الأصيل، من أبرزها غناؤه في قاعة نوبل للسلام في السويد، وفي قاعة بيتهوفن في بون- ألمانيا، وغنى في قاعة قصر المؤتمرات في باريس، كما نال جوائز من أرفع مستوى في عدة دولٍ منها وسام تونس الثقافي الذي قلده إياه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1975، ووسام التكريم من جلالة السلطان قابوس عام 2000، ونال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية في دمشق عام 1978، وقلده الرئيس السوري بشار الأسد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة في 12 فبراير عام 2007 في دمشق.

 

تزوج الفنان صباح فخري مرّتين، الزوجة الأولى أنجبت له ثلاثة أولاد “محمد وعمر وطريف” وتوفيت، أما زوجته الثانية فأنجبت له ابناً واحداً هو المطرب أنس صباح فخري، وفارق الحياة اليوم عن عمر ناهز 88 عاما وخلَّف وراءه مسيرة فنية طويلة وتاريخا تتوارثه الأجيال.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية