دمى مبتلّة وشهادات غارقة.. فيضانات تكساس تكشف غياب العدالة المناخية عن الفقراء والمهمشين

دمى مبتلّة وشهادات غارقة.. فيضانات تكساس تكشف غياب العدالة المناخية عن الفقراء والمهمشين
فيضانات تكساس

في أوائل يوليو 2025، شهدت ولاية تكساس فيضانات مدمرة أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص في حصيلة غير نهائية، فيما لا تزال فرق الإنقاذ تواصل عمليات البحث عن 27 فتاة فُقدن إثر اجتياح المياه لمخيم صيفي في مقاطعة كير. 

الحدث لم يكن مجرد حالة طقس متقلبة، بل كارثة بيئية سلطت الضوء مجددًا على فشل البنى التحتية والأنظمة الحكومية في الاستجابة لتداعيات التغير المناخي، في وقت يفترض أن تكون فيه السياسات أكثر استعدادًا لمواجهة هذا النوع من الظواهر المتكررة والمتطرفة.

نهر غوادالوبي، الذي طالما كان رافدًا للحياة وملاذًا للباحثين عن السكينة، لم يكن سوى قناع زائف هذه المرة، إذ ارتفع منسوبه بمقدار 8 أمتار خلال 45 دقيقة فقط، تلك الفترة الزمنية القصية كانت كفيلة بتحويل "مخيم ميستك" من مكان مكتظ بالضحك والمرح إلى ساحة خاوية إلا من الصمت ودمى مبتلّة تروي حكايات قُطعت على عجل.

ما كشفت عنه وكالة "فرانس برس"، بعد انحسار جزئي للمياه، بدا كما لو أنه مشهد من لوحة سريالية جريحة: بطانيات مبللة، وحقائب مدرسية عائمة، وأحذية صغيرة على أطراف خيم ممزقة. صور تعكس هشاشة الحياة حين تكون محاصرة بين تقصير الأنظمة وجبروت الطبيعة.

حتى مساء السبت، 5 يوليو 2025، تأكد مقتل خمسين شخصًا، منهم 43 في مقاطعة كير وحدها، وبينهم 15 طفلًا، أما بقية الضحايا فقد انتُشلوا من مقاطعات ترافيس، وبورنيت، وتوم غرين، أرقام لا تكتفي بطرح الفاجعة كأزمة محلية، بل تشير إلى اختلالٍ بنيوي في الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل ولاية ترامب الثانية، مع كوارث أصبحت أكثر مناخًا من كونها مفاجآت.

ملامح لعصر مناخي جديد

هذا الفيضان الأخير في ولاية تكساس لا ينتمي إلى تقلبات الطقس العابرة، بل إلى سياق أوسع تُرسم فيه الكارثة كملامح متوقعة لعصر مناخي جديد، عصر لم يعد يسألنا إن كنا مستعدين، بل يُملي شروطه بلغةٍ لا تعرف إلا الحسم، فالأمطار التي هطلت على تكساس خلال يومين فاقت متوسط شهرين، وسجّلت أكثر من 305 ملم في بعض المناطق، وكأن السماء، وقد أعيتها التحذيرات المنسية، فقررت أن تصرخ دفعة واحدة.

الأرض الجافة أصلاً لم تجد من الوقت أو البنية ما يساعدها على امتصاص المياه المتدفقة حاملةً معها المنازل والسيارات والأرواح، وفي قلب هذه المأساة، يقف سؤال صارخ: لماذا فشلت أنظمة الإنذار المبكر؟ ولماذا لم يُفعّل أي إجراء لإخلاء مخيم يضم مئات الفتيات؟ وقد اعترفت وزيرة الأمن الداخلي، كريستي نوم، بأن "النظام تجاوزته الأحداث"، وذلك يمثل اعترافاً نادراً بفشل التقدير العلمي في رصد التحوّلات المفاجئة، والتقرير الرسمي للأرصاد أكد هو الآخر هذا الفشل، مشيرًا إلى أن التنبؤات الصادرة قبل الكارثة بساعات لم تُشر لأي ارتفاع غير اعتيادي في منسوب الأمطار.

لكن ما حدث يتجاوز الإخفاق العلمي، ليعري بنية إدارية تقف مترددة أمام واقع مناخي بات أكثر قسوة وتطرفًا. فبحسب تقارير "المركز الوطني للمناخ"، شهدت الولايات المتحدة في النصف الأول من عام 2025 اثنتي عشرة كارثة طبيعية كبرى، فاقت خسائرها 18 مليار دولار، منها 36% بسبب الفيضانات، مع تركز لافت في الجنوب الأمريكي، وتحديدًا تكساس، التي تبدو اليوم وكأنها تسدد فاتورة قرارات تأجلت طويلًا.

العدالة المناخية

العدالة المناخية، تلك التي تنادي بها تقارير الأمم المتحدة، تنهار على أرض الواقع، حيث يدفع الفقراء والأقليات الثمن الأكبر، أكثر المتضررين من فيضانات كيرفيل كانوا من الفئات الأقل حظًا، القاطنين في مساكن غير محصّنة، والعاجزين عن مغادرة أماكنهم دون سيارات أو بدائل آمنة.

تقرير صدر في أبريل 2025 عن "الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ" (FEMA) كشف أن 58% من المناطق المصنفة عالية الخطورة في تكساس لم يتم تحديث أنظمة التصريف والإنذار فيها رغم توفر التمويل منذ عام 2021. تقرير وصف الوضع بأنه "قنبلة مؤجلة"، وها هي قد انفجرت، حاملة معها أرواحًا بريئة كان يمكن إنقاذها لو تحركت الإدارة في الوقت المناسب.

الجانب الأخلاقي من الكارثة أكثر فتكًا، لماذا لم يكن لمخيم "ميستك"، الذي يضم مئات الفتيات، خطة إخلاء واضحة؟ وكشف تحقيق أولي لصحيفة “تكساس تريبيون” أن إدارة المخيم تلقت تحذيرًا بارتفاع النهر في السادسة مساءً، أي قبل الكارثة بساعتين، لكنها لم تُفعّل سوى تنبيهات داخلية غير ملزمة.

الرئيس دونالد ترامب، في تعليقه الإعلامي الأول، وعد بتوفير "كافة الموارد اللازمة"، فيما وسّع حاكم ولاية تكساس، غريغ أبوت، حالة الطوارئ لتشمل 47 مقاطعة.. إنها تصريحات ضرورية لكنها لا تمحو الإخفاقات المتراكمة، خصوصًا في ظل إدارة ترامب الثانية التي يراها كثيرون أقل التزامًا بالملف المناخي وأكثر انحيازًا لمصالح الصناعة والطاقة التقليدية.

وفي تقرير حديث لـ"مجموعة عمل العدالة المناخية الأمريكية"، نُشر في يوليو 2025، ورد أن 75% من المناطق المحرومة من أنظمة إنذار مبكر تقع في أحياء يغلب عليها ذوو الدخل المحدود أو الأقليات. هذا ليس مجرد إهمال، بل بنية ممنهجة لتجاهل الاحتياجات بناءً على الموقع الاجتماعي والجغرافي.

وفيما تبدو تكساس الآن على حافة كارثة أخرى، ربما أكثر خطورة من الفيضان ذاته، يُطرح السؤال المفصلي: إلى متى نظل نحمّل الطبيعة مسؤولية تقصيرنا؟ تغير المناخ ليس قصة عن المستقبل، بل عنواناً لألم يومي يتنكر في هيئة أمطار أو جفاف أو حرائق. وحين تتكرّر الكارثة ولا نتحرك، نتحول من ضحايا إلى شركاء في الجريمة.

ومع كل يوم جديد من البحث وسط الركام، ومع كل طفلة تُنتشل جثتها من المياه، يرتفع صوت الأسئلة أكثر: كم من هذه الأرواح كان يمكن إنقاذها؟ ماذا لو كانت ميزانيات البنية التحتية نصف ما يُنفق على الدفاع؟ ماذا لو تحركنا قبل أن تتحرك المياه؟

تكساس لا تحتاج فقط إلى معدات إنقاذ، بل إلى مشروع وطني يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمناخ، بين الأمن والبنية التحتية، بين التخطيط والعدالة. لقد بات من الواضح أن استمرار إدارة الكوارث بنفس الأدوات القديمة هو بمثابة دعوة مفتوحة للمزيد من الأهوال. وحين لا تتحرّك الدولة إلا بعد الكارثة، فإنها تكون قد اختارت الصمت في وجه تحذير الطبيعة.

اليوم، تقف طائرات الهليكوبتر تحوم فوق الأشجار، فيما الأهالي يحدقون في المياه وكأنهم ينتظرون أن تُعيد لهم ما خطفه السيل، ووحدها الحقيقة تبقى أن الأطفال الذين غرقوا في "ميستك" لم يكونوا فقط ضحايا الفيضان، بل شهداء نظام أدار وجهه عن المستقبل، ولم يصغِ لصوت المناخ حين كان يهمس، قبل أن يصرخ.

والسؤال الأخير الذي لا بد أن يُكتب على جدران كل مؤسسة رسمية: هل نحن مستعدون للموجة القادمة؟ لأن الماء، حين يفيض، لا يطرق الباب.

أزمة أخلاقية تهدد الحقوق وتكشف هشاشة العدالة

في ظل تصاعد الكوارث البيئية على مستوى العالم، أكد خبراء بيئيون وحقوقيون أن التغير المناخي لم يعد مجرد تحدٍ بيئي، بل بات أزمة أخلاقية وإنسانية تضرب في صميم الحقوق الأساسية للفئات الأضعف في العالم.

وقال الدكتور عادل سليمان، رئيس جمعية "بيئة بلا حدود"، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن آثار التغير المناخي أصبحت ملموسة على حياة البشر اليومية، من موجات الجفاف والفيضانات إلى التهجير القسري وانعدام الأمن الغذائي، مضيفًا: "نحن أمام كارثة لا تفرّق، لكنها تضرب الفقراء أولاً وبعنف مضاعف".

وأشار إلى أن الحقوق الأساسية مثل السكن، والغذاء، والمياه النظيفة، والصحة باتت جميعها مهددة بفعل الأزمة المناخية، داعيًا إلى تبني سياسات مناخية عادلة تراعي احتياجات الفئات المهمشة، وتدمج العدالة الاجتماعية والبيئية في صلب أي خطة انتقال نحو الطاقة النظيفة.

واختتم الدكتور سليمان بدعوة إلى ضمير عالمي فاعل، يتجاوز المؤتمرات والشعارات نحو خطوات فعلية للالتزام باتفاقية باريس، قائلًا: "الكوكب لا يصرخ، لكنه يحتضر، وصمتنا اليوم هو وصمة أجيال الغد".

فشل مؤسسي في الحوكمة والوقاية

أما الدكتورة أسماء رمزي، خبيرة حقوق الإنسان، فوصفت الكارثة البيئية الأخيرة بأنها “ليست فعلاً طبيعياً محضاً، بل نتيجة لفشل مؤسسي في الحوكمة والوقاية”.

 وانتقدت رمزي في تصريحات لـ"جسور بوست" غياب العدالة المناخية والاجتماعية، خاصة في ما يتعلق بحماية الأطفال والنساء في المخيمات البيئية غير المؤهلة، مطالبة بإعادة هيكلة كاملة للسياسات البيئية وفق نهج حقوقي وشامل.

وأكدت أن غياب الشفافية والمساءلة، والتفاوت الطبقي في الحماية من المخاطر، يفرضان تحديات خطيرة على ثقة المواطن بالدولة، مشيرين إلى أن الدول الفقيرة هي من تدفع الكلفة البشرية، رغم أن مسؤولية الانبعاثات تقع بالدرجة الأولى على الدول الصناعية الكبرى.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية