2023.. عام ازدواجية المعايير والانتهاكات الحقوقية المسكوت عنها
2023.. عام ازدواجية المعايير والانتهاكات الحقوقية المسكوت عنها
في عالم يزداد اضطرابا مع الحروب والنزاعات وتفشي الأوبئة والكوارث الطبيعية، شهد عام 2023 طوفاناً من الانتهاكات الحقوقية في العديد من البلدان.
ورغم نشوب الصراعات المسلحة في عدة بؤر، فإن إدانات الأمم المتحدة والحكومات لعمليات القتل والتعذيب والتهجير القسري والعنف الجسدي اقتصرت على إجراءات موجزة، ولم تفعل شيئا آخر يذكر.
فيما لم تقتصر المعايير المزدوجة على القوى العظمى العالمية وحدها، بل اتخذت العديد من دول العالم الثالث الازدواجية منهجا في التعامل مع ملفات حقوق الإنسان على وجه التحديد.
وفتح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تحقيقا لتوثيق الأدلة على الانتهاكات الروسية ضد أوكرانيا، واختار لاحقا مقررا خاصا لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان داخل موسكو، فيما عجز عن تشكيل لجنة تحقيق دولية في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين العزل في قطاع غزة.
وفي استجابة استثنائية، رحبت الدول الأوروبية بملايين اللاجئين الأوكرانيين، في سلوك يكشف عن المعايير المزدوجة لمعظم الدول الأعضاء في "الاتحاد الأوروبي" في معاملتها المستمرة لعدد كبير من السوريين، والأفغان، والفلسطينيين، والصوماليين وغيرهم ممن يلتمسون اللجوء.
كما فتح المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" في لاهاي تحقيقا في أوكرانيا بعد إحالة الوضع إلى المحكمة من قبل عدد غير مسبوق من دولها الأعضاء، لكن المحكمة لم تحرك ساكنا بشأن الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، والتي أودت بحياة أكثر من 20 ألفاً وجرح عشرات الآلاف.

انتهاكات تيغراي
ولم يحظَ النزاع المسلح في شمال إثيوبيا سوى بجزء ضئيل من الاهتمام العالمي المركّز على أوكرانيا، رغم عامين من الفظائع، بما فيها عدد من المذابح، من قبل الأطراف المتحاربة.
ومن عام 2020، اندلعت التوترات بين الحكومة الاتحادية الإثيوبية والسلطات الإقليمية في تيغراي، وتحولت إلى نزاع مسلح أسفر عن حملة التطهير العرقي ضد سكان الإقليم وارتكاب عنف جنسي، واحتجاز جماعي، وتهجير قسري وغيرها.
وفرضت الحكومة الإثيوبية قيودا شديدة على وصول المحققين الحقوقيين والصحفيين إلى المناطق المتضررة من النزاع بشدة منذ ذلك الحين، ما يصعّب التدقيق في الانتهاكات التي تتكشف مع مرور السنين.
ومنعت الدول الإفريقية الثلاث المنتخبة في مجلس الأمن الدولي، وهي: الغابون، وغانا، وكينيا، ومعها كذلك روسيا والصين، وضع إثيوبيا على جدول أعماله الرسمي للمناقشة، رغم صلاحية المجلس بحفظ السلام والأمن الدوليين واستعادتهما.
وترددت الحكومات في تبني عقوبات مستهدِفة ضد الكيانات والأفراد الإثيوبيين المسؤولين عن الانتهاكات، بالمقابل وقع التدقيق الدولي على عاتق المجلس الدولي لحقوق الإنسان، والذي جدد بصعوبة تفويض آلية التحقيق في الانتهاكات الجسيمة، وتوثيقها وتحديد المسؤولين عنها، رغم مواصلة السلطات الاتحادية الإثيوبية عرقلة عملها بشدة.

قمع الأقليات في الصين
وفي مارس 2023، حصل الرئيس الصيني شي جين بينغ على ولاية ثالثة غير مسبوقة كرئيس لـ "الحزب الشيوعي الصيني"، في ظل استمرار عداء الحكومة الصينية المستمر لحماية حقوق الإنسان.
في منطقة شينجيانغ، تعتقل بكين جماعيا نحو مليون من الأويغور وغيرهم من المسلمين الترك، الذين يتعرضون للتعذيب والاضطهاد السياسي والعمل القسري، إلى جانب فرض القيود الشديدة على الحقوق والطقوس الدينية والتعبير والثقافة لعامة للسكان، في انتهاكات وصفتها الأمم المتحدة بـ"جرائم ضد الإنسانية".
ومع تنامي الانزعاج من الطموحات القمعية للحكومة الصينية، سعت عدة حكومات من بينها أستراليا، واليابان، وكندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي إلى إقامة تحالفات تجارية وأمنية مع الهند، والتستر خلف تسميتها "أكبر ديمقراطية في العالم".
لكن حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي القومي، الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، كرر عددا من الانتهاكات نفسها التي مكّنت الدولة الصينية من القمع، كالتمييز المنهجي ضد الأقليات الدينية، وخنق المعارضة السلمية، واستخدام التكنولوجيا لقمع حرية التعبير، لتشديد قبضتها على السلطة.
ويقول مراقبون إن المقايضة المستهترة بحقوق الإنسان التي اعتاد استخدامها قادة العالم، تتجاهل الآثار الطويلة المدى لتنازلاتها والتي تدعم بشكل غير مباشر السجل الحقوقي المنتهِك الذي يهدر الحقوق الإنسانية والديمقراطية.

احتجاجات إيران
وعلى مدى أشهر طويلة، شهدت إيران موجة احتجاجات شعبية عارمة، عقب وفاة الشابة مهسا أميني (22 عاما) بعد اعتقالها على يد "شرطة الآداب" لارتدائها "حجاب غير لائق".
وكشفت المظاهرات المستمرة سوء تقدير الأنظمة الاستبدادية في تخيلها أن القمع هو طريق مختصر نحو الاستقرار، إذ تحولت المطالبة بالمساواة التي أثارتها النساء وطالبات المدارس إلى حركة وطنية للشعب الإيراني بأكمله ضد حكومة تُحرم الحقوق بشكل منهجي.
وقمعت السلطات الإيرانية بشدة الاحتجاجات المناهضة للحكومة واستخدمت القوة المفرطة والقاتلة، تتبعها المحاكمات الصُورية وأحكام الإعدام ضد المعارضين لسلطة الحكومة، ولم تفلح التلميحات بأن السلطات قد تحل ما تعرف بـ“شرطة الأخلاق” في إخماد الاحتجاجات الشعبية الغاضبة.
وفي السنوات الأخيرة، واجه بعض العمال والناشطين النقابيين في إيران، أحكامًا بالسجن والجلد بسبب الاحتجاجات العمالية المتواصلة، جراء قرارات طردهم وتأخير صرف رواتبهم.

الوحشية في ميانمار
وتتعرض الأقلية المسلمة في ميانمار إلى اضطهاد وتطهير عرقي، فيما يطالب الملايين باحترام حقوق الإنسان والحكم المدني الديمقراطي في البلاد، لا سيما بعد أن نفذ جيش ميانمار انقلابا في عام 2021 وارتكب على مدى عامين انتهاكات منهجية، من القتل خارج نطاق القضاء إلى التعذيب والعنف الجنسي.
ويغادر الروهينغا منذ سنوات ميانمار ذات الأغلبية البوذية التي تحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية وترتكب بحقهم انتهاكات فظيعة وصفتها التقارير الأممية بأنها ترقى لمستوى التطهير العرقي والإبادة الجماعية وجرائم حرب.
ويعيش ما يقرب من مليون من الروهينغا في مخيمات للاجئين بمنطقة كوكس بازار على حدود بنغلاديش ومعظمهم فر من حملة إجراءات صارمة قادها الجيش في ميانمار في عام 2017.
ويقول المراقبون إن رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" يجب عليها تكثيف الضغوط على ميانمار عبر التنسيق مع الجهود الدولية لقطع عائدات المجلس العسكري من العملات الأجنبية ومشتريات الأسلحة، وهو ما سيضعف بدوره جيش ميانمار.
كما يجب على إندونيسيا، بصفتها الرئيسة في عام 2023، قيادة مراجعة السجل الحقوقي للمجلس العسكري الحاكم والنظر في تعليق عضوية ميانمار لتأكيد الالتزام بأن تكون آسيان متضامنة مع الشعوب المأزومة.

يُظهر حجم أزمات حقوق الإنسان وتكرارها في جميع أنحاء العالم مدى الحاجة الملحة إلى وضع إطار جديد ونموذج جديد للعمل، وإعادة النظر في الأسباب الجذرية للاضطرابات التي تؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الحريات بالعالم.