زواج الأطفال في العراق.. حلمٌ مبكرٌ تبتلعه الظلمة وتشرعه القوانين
زواج الأطفال في العراق.. حلمٌ مبكرٌ تبتلعه الظلمة وتشرعه القوانين
كانت ندى "اسم مستعار"، ذات الأربعة عشر ربيعاً، تمتلك عيوناً لامعة كنجوم الصيف، وشعراً يتدفق كشلالٍ من الحرير، كانت تحلم ككل الفتيات في قريتها النائية، الواقعة بين سهول العراق الخضراء، بأن تكمل دراستها، أن تصير معلمةً تزرع العلم في عقول الصغار، أو ربما طبيبةً تداوي آلام الناس، كانت تقتفي أثر فراشات الربيع في الحقول المجاورة، وتملأ دفترها برسوماتٍ لبيوتٍ ورديةٍ وحدائق غنّاء، تعكس براءة أحلامها الصغيرة.
لكن هذه الأحلام الوردية سرعان ما تبددت، كأنها فقاعات صابون تلاشت في مهب رياح قاسية. في ذلك اليوم المشؤوم، عادت ندى من المدرسة لتجد في منزلهم جمعاً غفيراً من الأقارب والجيران.
الهمسات كانت تتسلل من بين الشفاه، وتراوح بين "ستر" و"مصلحة" و"خير للجميع". لم تفهم ندى في بادئ الأمر، كانت تبحث عن والدتها لتسألها عن سر هذا التجمع المفاجئ، لكنّ عيني والدتها المليئتين بالدموع كانتا كافيتين لترسم خوفاً غامضاً في قلب ندى.
لم يمضِ وقت طويل حتى انكشفت الحقيقة المرة.. ندى خُطبت لرجل يكبرها بأكثر من ضعف عمرها، رجلٌ لم ترَه إلا مرات معدودة، وكان بالنسبة لها مجرد شبح يرتدي عباءة التقاليد البالية.
حاولت ندى أن تقاوم، أن تصرخ، أن تتمسك بأصابعها الصغيرة بجدران منزلها الذي كان يمثل ملاذها الآمن، لكن صرخاتها ذابت في زحمة الأصوات، ودموعها جفت على خديها، وتحول دفتر أحلامها إلى مجرد أوراقٍ فارغةٍ لا تحمل سوى بقايا آمالٍ مهشمة.
أُجبرت ندى على ارتداء ثوب الزفاف، ثوبٌ أبيض بدا لها ككفنٍ يلف طفولتها، كانت تبدو فيه كدميةٍ صغيرةٍ أُجبرت على أن تلعب دوراً لم تفهمه، وجهها الشاحب وعيناها الخائفتان تكشفان عن روحٍ مزقت.
ليلة زفافها، لم تكن سوى كابوسٍ ممتدٍ، بدايةً لحياةٍ لم تخترها، وفقدانٍ لكل ما كانت تحلم به. أُجهضت أحلام ندى تحت وطأة الزواج المبكر، وتحولت الفراشة الحرة إلى سيدة منزلٍ صغيرةٍ تحمل على عاتقها أعباءً تفوق طاقتها، تاركةً خلفها طفولةً مبتورةً وروحاً مكسورة.
"زوجوني لابن عم أبي وهو كبير، مواليد خمسة وسبعين"، هكذا بدأت ندى، التي فضلت الكشف عن جانب من قصتها، رواية معاناتها، وهي تصف لحظة فقدانها طفولتها.
ظروف عائلية هشة
تابعت حديثها بوجه شاحب وعينين غائمتين: "وأنا صغيرة، لا أعرف شيئاً، وأمي وأبي مطلقان، وأعيش عند عمتي"، هذه الظروف العائلية الهشة، بالإضافة إلى صغر سنها، جعلتها عرضة للزواج المبكر والتخلي عن تعليمها، "مواليدي 2007 وتزوجت، كان عمري 12 سنة وأوقفوني عن المدرسة"، تضيف ندى مؤكدة انتهاك حقها الأساسي في التعليم.
لم تتوقف محنة ندى عند الزواج القسري، فقد اكتشفت لاحقاً وجود "ضرة، لم تكن تعلم أنني زوجته، وجعلني خادمة لديهما"، هذه المفاجأة المؤلمة حولت حياتها إلى جحيم: "في البداية كانت طيبة، بعد ذلك تحولت، وأخذ يتشاجر زوجي معي دون ذنب.. نحن نعيش في البساتين، قد حملت مرة وأجهضت، ومرة أخرى أخذوا الجنين مني رغماً عني.
لم يسلم جسد ندى الصغير من العنف والاعتداء.. "يضربني كثيراً جداً"، تقول ندى بتجرد مؤلم، واصفة العنف الجسدي والجنسي المروع الذي تعرضت له، هذا العنف أدى إلى مشكلات صحية خطِرة: “لدي مشكلات في الرحم، لأني حملت في سن صغير”.
بعد هذه المعاناة، جاء الطلاق ليترك ندى في وضع جديد، لكنه ليس بالضرورة أفضل. "بعدها طلقني. وعدت إلى بيت أمي وأعمل عند أمي وأنا لا أعرف شيئاً، وأجلس في البيت، أشاهد التلفزيون، البنات يذهبن إلى المدارس، يشترين، يعملن، وأنا كنت وحدي".
الطلاق لم يُعد لها طفولتها، بل أضاف لها عبئاً جديداً: مسؤولية العمل دون امتلاك أي مهارات أو تعليم يؤهلها لذلك، شعورها بالعزلة والفقدان يتجلى في مقارنتها نفسها بالفتيات الأخريات: "البنات يذهبن إلى المدارس، يشترين، يعملن، وأنا كنت وحدي".
حلم ندى الأكبر، رغم كل ما مرت به، يظل التعليم: "حلمي دخول المدرسة بدلاً عن الجلوس هكذا بلا تعليم، أنظر إلى الفتيات اللائي يذهبن إلى المدارس، وأتساءل: لماذا لا أرتدي مثلهن وأتردد على المدارس مثلهن، آه لو أُعطيت فرصة كتلك".
تتمنى ندى أن يأتي من ينقذها: "أتمنى أن يأتيني أحدهم ويقول لأهلي لا تضربوها، ودعوها تذهب إلى المدرسة، فإذا قال أحد لهم، لا تضربوها، وتذهب إلى المدرسة، سأصير شيئاً كبيراً"، هذا الأمل بوجود من يدافع عنها ويساندها في حقها بالتعليم والحياة الكريمة، هو بصيص نور في نفق مظلم.
هذه ليست قصة ندى وحدها، بل هي صدى لآلاف القصص المأساوية التي تتكرر يومياً في العراق، حيث تظل الطفلات عرضةً لانتهاك حقوقهن الأساسية، ويصبحن ضحايا لتقاليدٍ باليةٍ وقوانين قاصرةٍ تحرمهن أبسط حقوق الطفولة: اللعب، والتعليم، والحياة الكريمة، ففي ظل تحدياتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ معقدةٍ، يبرز زواج القاصرات كظاهرةٍ خطِرةٍ تتطلب معالجةً شاملةً وعاجلةً لحماية مستقبل هؤلاء الطفلات.
زواج القاصرات في العراق
ويُعد زواج القاصرات انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وتحدياً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً يواجه العراق. ففي هذا البلد الذي شهد عقوداً من الصراعات والاضطرابات، تفاقمت ظاهرة زواج القاصرات، لتصبح قضيةً اجتماعيةً وصحيةً ونفسيةً خطِرةً تتطلب اهتماماً عاجلاً ومعالجةً شاملةً.
وطالما كان القانون العراقي الحالي، "قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959" وتعديلاته، هو المرجع لسن الزواج في العراق. يحدد هذا القانون السن القانوني للزواج بـ18 عاماً لكل من الذكور والإناث.
ومع ذلك، يسمح القانون بإبرام عقود الزواج لمن يبلغون 15 عاماً "بإذن من القاضي المختص" في حالات استثنائية، و"إذا ثبت بلوغ الفتاة" عن طريق الكشف الطبي. هذه الثغرة القانونية استُغلت على نطاق واسع لتزويج القاصرات.
لكن الوضع تفاقم مع التعديل الجديد لقانون الأحوال الشخصية العراقي الذي دخل حيز التنفيذ في 17 فبراير 2025، بعد شهور من المشاحنات القانونية والسياسية، هذا التعديل، بحسب هيومن رايتس ووتش، "ينتهك حقوق النساء والفتيات في المساواة أمام القانون، ويعرضهن لخطر انتهاكات أخرى"، فالتعديل يتيح للزوجين عند إبرام عقد الزواج اختيار ما إذا كان قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 أو "مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية" التي سيُعدّها المذهب الشيعي الجعفري، سيحكم زواجهما وطلاقهما وأطفالهما وميراثهما.
هذا الترتيب ينشئ، بفعالية، أنظمة قانونية منفصلة تمنح حقوقاً مختلفة للطوائف المختلفة، ما يقوض الحق في المساواة أمام القانون المنصوص عليه في الدستور العراقي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من الضغط والمناصرة المستمرة من قِبل منظمات حقوق المرأة، التي خفّفت جزئياً من ضرر التعديل عبر الإبقاء على أحكام تتعلق بالسن الأدنى للزواج وحضانة الأطفال وتعدد الزوجات، إلا أن القانون المُعدَّل لا يزال يحمل أحكاماً تهدد حقوق النساء والفتيات. فبينما ينص على أن "الحد الأدنى لسن الزواج في المدونة لا يمكن أن يتعارض مع قانون الأحوال الشخصية" (الذي يحدد السن القانوني بـ18 عاماً أو 15 عاماً بإذن القاضي)، إلا أن سارة صنبر، باحثة العراق في هيومن رايتس ووتش، تؤكد "رغم أن النص النهائي يتضمن تعديلات مهمة، وخاصة بما يتعلق بالحد الأدنى لسن الزواج، لا تفيد هذه التغييرات بأكثر من تحويل القانون من فظيع إلى سيء جداً".
هذا القانون الجديد، بحسب المحلل السياسي علي الحبيب، "يفتح باب تشريع لزيجات هي غير مسجلة، وتُجرى خارج المحاكم العراقية، ما يفاقم الوضع"، وهو ما تؤكده الصحفية والناشطة في حقوق المرأة بنين إلياس: "التشريع الجديد بصراحة لن يُجدي نفعاً أو يؤخر شيئاً، إنه مجرد قانون سيُطبق، لأن الجميع حالياً يقوم بتزويج الفتيات، القانون العراقي لم يجرم حتى الآن، المحاكم العراقية لم تجرم شخصاً قام بتزويج فتاة تحت السن القانوني قط".
وتضيف إلياس أن "مكاتب التزويج، القاصرات، يزوجون حتى بعمر تسع سنوات، وهو جائز تزويجها في المكاتب غير الشرعية، وهذه المكاتب أنتجت لنا أطفالاً غير مسجلين، وغير مقيدين، هذه الزيجات غير مقيدة، غير مسجلة، ما يفاقم المشكلات".
ووصف علي الحبيب مسودة القانون هذه بأنها "خطوة خطِرة وتراجع واضح عن مكتسبات حقوق المرأة والطفل"، وأنها تخالف الدستور العراقي والمواثيق الدولية مثل اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).
وشدد الحبيب على أن هذه التعديلات تعرض الفتيات القاصرات لأخطار جسيمة، بما في ذلك العنف الجنسي والبدني، والحرمان من التعليم، وتدهور الصحة النفسية والجسدية.
آثار النزاعات والنزوح
ولعبت النزاعات المسلحة والنزوح القسري دوراً محورياً في تفاقم ظاهرة زواج القاصرات في العراق. ففي ظل الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، ومعاناة آلاف العائلات من الفقر والتشرد وفقدان المعيل، أصبح الزواج المبكر وسيلة للنجاة أو تخفيف العبء الاقتصادي عن كاهل الأسرة.
تلجأ بعض العائلات إلى تزويج بناتهن القاصرات للتخلص من عبء إعالتهن، أو للحصول على "مهر" يساعد على توفير احتياجات الأسرة الأساسية، في مخيمات النزوح، حيث تنتشر البطالة واليأس، تزداد احتمالية زواج القاصرات بشكلٍ ملحوظ، إذ تصبح الفتيات الصغيرات عرضةً للاستغلال والتهميش.
الأضرار النفسية والصحية
ووفقًا لتقارير منظمة اليونيسيف، فلا يقتصر زواج القاصرات على حرمان الفتيات من طفولتهن وحقهن في التعليم، بل يمتد ليشمل أضراراً نفسيةً وجسديةً عميقةً، تدوم آثارها لسنواتٍ طويلةٍ، وتترك ندوباً لا تلتئم بسهولة، فقد يحمل معه عبئاً نفسياً هائلاً على الطفلة التي لم تكتمل بعد نموها العاطفي والنفسي، حيث تواجه الطفلة المتزوجة تحدياتٍ كبيرةٍ في التكيف مع دور الزوجة والأم، وهي أدوارٌ تفوق قدرتها على التحمل، ومن أبرز الأضرار النفسية التي تؤثر في الطفلة المتزوجة: الصدمة النفسية، والقلق والاكتئاب، وفقدان الهوية، والشعور بالوحدة والعزلة، وضعف الثقة بالنفس، وتزداد احتمالية تعرض الطفلات المتزوجات للعنف الجسدي والجنسي والنفسي من قبل الأزواج أو الأسر، ما يترك آثاراً نفسيةً عميقةً تدوم مدى الحياة.
ويؤكد المحلل السياسي علي الحبيب أن الزواج المبكر يؤدي إلى "زيادة أخطار العنف الأسري بما في ذلك العنف الجنسي والبدني"، في بعض الحالات، قد تعاني الطفلات المتزوجات من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) نتيجة للتجارب المؤلمة التي مررن بها.
وفيما يتعلق بالأضرار الصحية فقد أشارت تقارير هيومن رايتس ووتش، صحة الطفلات المتزوجات تُشكل تحدياً كبيراً، فجسدهن لم يكتمل بعد، ولا يمتلكن الوعي الكافي بالصحة الإنجابية، ومن أبرز الأضرار الصحية: أخطار الحمل والولادة، حيث تُعد الطفلات القاصرات أكثر عرضةً للمضاعفات الخطِرة أثناء الحمل والولادة، مثل الولادة المبكرة، وتمزق الرحم، والنزيف الحاد، وتسمم الحمل. فجسدهن غير مهيأ للحمل والولادة، ما يعرضهن لخطر الوفاة أو الإعاقة الدائمة.
من جانبها، أكدت الصحفية والناشطة، بنين إلياس، أن "الصغيرات يعانين من رفع الرحم، وانفجار الرحم، ومشكلات صحية أخرى.
وقالت إنه في بعض الحالات، قد يؤدي الحمل المبكر والولادة الصعبة إلى الإصابة بـالناسور الولادي، كما تزداد احتمالية الإجهاض والموت الجنيني، والإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً (STIs)، ونقص التغذية وفقر الدم، في بعض الحالات، قد تؤدي المضاعفات الصحية الناجمة عن الحمل والولادة المبكرة إلى وفاة الطفلة الأم.
وأشارت هيومن رايتس ووتش إلى أن "زواج الأطفال يزيد من تعقيدات الولادة، ويهدد حياة الأم والجنين، وخاصة في حالات الزواج غير المسجلة التي تحرم الفتيات من الرعاية الصحية".
وتؤكد العديد من الدراسات والتقارير الدولية خطورة زواج القاصرات على صحة الفتيات، فوفقاً لصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، تتزوج 28% من الفتيات في العراق قبل سن 18 عاماً. ويُعرّض زواج الأطفال الفتيات لخطر متزايد من العنف الجنسي والجسدي، وعواقب ضارة على الصحة الجسدية والعقلية، والحرمان من التعليم والتوظيف.
تشير تقديرات اليونيسف إلى أن ما يقرب من 12 مليون فتاة يتزوجن قبل بلوغهن 18 عاماً كل عام على مستوى العالم. وفي العراق، تُعد إحصائيات زواج القاصرات مقلقةً للغاية، على الرغم من صعوبة الحصول على بيانات دقيقة بسبب عدم تسجيل بعض الزيجات بشكلٍ رسمي. وتوضح بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق أن 22% من الزيجات غير المسجلة شملت فتيات دون سن الرابع عشر.
غضب مجتمعي ومطالب بالإصلاح
لم يمر تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق دون ردود أفعالٍ قويةٍ من قبل المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، والناشطين في مجال حقوق الإنسان.
وأثارت هذه المقترحات موجةً عارمةً من الغضب والاستنكار، واعتُبرت خطوةً إلى الوراء في مسيرة العراق نحو حماية حقوق الطفل والمرأة.
وخرج آلاف العراقيين، لا سيما النساء والشباب، في تظاهراتٍ احتجاجيةٍ في مختلف المدن، رافعين شعاراتٍ تندد بالقانون وتطالب بوقف زواج القاصرات. عبّرت المتظاهرات عن رفضهن القاطع لتزويج الطفلات، مؤكداتٍ حقهن في التعليم والحياة الكريمة.
كانت هذه التظاهرات بمنزلة رسالةٍ واضحةٍ إلى صناع القرار بأن المجتمع العراقي لن يقبل المساس بحقوق أطفاله. كما أن هيومن رايتس ووتش وصفت "التحسينات في النسخة النهائية من القانون المُعدَّل "بأنها" شهادة على قوة التنظيم والمناصرة من قِبل النساء العراقيات".
إدانات دولية
وأدانت العديد من المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة واليونيسف ومنظمة العفو الدولية، مشروع القانون، وحذرت من عواقبه الوخيمة على حقوق الإنسان في العراق، وصدرت بياناتٌ صحفيةٌ وبياناتٌ مشتركةٌ من هذه المنظمات، تدعو الحكومة العراقية إلى سحب مشروع القانون، والالتزام بالاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها العراق، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).
وترى هيومن رايتس ووتش أن هذا القانون "يخالف الاتفاقية" بحرمان النساء والفتيات من حقوقهن على أساس جنسهن، وينتهك اتفاقية حقوق الطفل من خلال تشريع زواج الأطفال وتعريض الفتيات لخطر الزواج القسري والمبكر، وجعلهن عرضة للانتهاك الجنسي، وعدم اشتراط اتخاذ القرارات بشأن الأطفال في قضايا الطلاق بما يخدم المصلحة الفضلى للطفل.
كما يبدو أن مشروع التعديل ينتهك "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" و"العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" من خلال حرمان بعض الأشخاص من حقوقهم على أساس دينهم.
دوافع سياسية وطائفية
يرى المحلل السياسي علي الحبيب أن هناك "مخاوف مشروعة من أن التعديلات المقترحة تعكس أجندة سياسية، وكذلك أجندة طائفية تهدف إلى تعزيز نفوذ تيارات دينية متطرفة على حساب حقوق فئات ضعيفة، وخاصة النساء والأطفال".
ويضيف "بعضهم يرى أن طرح القانون يكون مرتبطاً بدوافع انتخابية ومحاولات لتعزيز السيطرة السياسية من خلال استرضاء فئات معينة"، هذا الصراع بين "القوى المحافظة التي تسعى لتعزيز السلطة الدينية، وكذلك القوة المدافعة عن حقوق الإنسان"، يعكس مدى تعقيد الوضع في العراق.
ويُلاحظ أن القانون المُعدَّل "يقوّض مبدأ المساواة أمام القانون من خلال إنشاء أنظمة قانونية مختلفة لمختلف الطوائف الإسلامية. عارض فقهاء الدين السنّة هذا التعديل ورفضوا المشاركة في صياغة مدونتهم الخاصة، وبالتالي المذهب الشيعي الجعفري فقط سيقوم بذلك".
تحديات التنفيذ والرقابة
يمنح التعديل المذهب الجعفري أربعة أشهر لوضع وتقديم المدونة إلى البرلمان، الذي يتعين عليه الموافقة عليها ووضعها قيد التنفيذ خلال 30 يوماً، هذه الإجراءات تثير مخاوف هيومن رايتس ووتش من أنه "لن تتاح الفرصة للمُشرّعين وعامة الناس لمراجعة المدونة أو التصويت عليها قبل أن تصبح قانوناً، ما يزيل الرقابة الديمقراطية، ويمنح السلطات الدينية سلطة غير متناسبة في وضع القانون".
وتضيف المنظمة أن "التأثيرات الممتدة لتمرير هذا القانون ستكون واسعة النطاق، ومن المرجح أن تغيّر نسيج المجتمع العراقي على حساب استقلالية النساء والفتيات العراقيات وقدرتهن على اتخاذ قراراتهن بأنفسهن".
مواجهة التحديات في العراق
يتطلب التصدي لظاهرة زواج القاصرات في العراق جهوداً متضافرةً على مستوياتٍ متعددة، خاصة في ظل التشريعات الجديدة التي تعقد المشهد، ويجب الضغط بقوة على البرلمان العراقي لإلغاء التعديل الأخير لقانون الأحوال الشخصية، والعودة إلى القانون الأصلي الذي كان "متكاملاً من كل الجوانب، ولا يحتوي به ثغرات، بل هو قانون يحمي الأسرة ويحمي المرأة" بهذه الكلمات استكمل المحلل السياسي علي الحبيب حديثه قائلاً: من الضروري هو تعديل قانون الأحوال الشخصية الحالي لرفع سن الزواج إلى 18 عاماً دون استثناءات، وتجريم زواج القاصرات بشكلٍ مطلق، وتطبيق عقوباتٍ صارمةٍ على المخالفين، على أن تكون مصلحة الطفل هي المعيار الأساسي في أي تشريع يتعلق بالزواج.
ويضيف: لا بد من تنظيم حملات توعية مكثفة تستهدف المجتمع بأسره، لا سيما في المناطق الريفية والمحافظات التي تشهد انتشاراً واسعاً للظاهرة. ويجب أن تركز هذه الحملات على الآثار السلبية لزواج القاصرات على صحة الفتيات النفسية والجسدية، وعلى حقهن في التعليم والتنمية، وهو ما تؤكده بنين إلياس بضرورة "التركيز على التعليم والتمكين الاقتصادي للنساء، كما يجب تعزيز فرص التعليم للفتيات وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومناسبة لضمان استمرارهن في الدراسة وتأهيلهن للمستقبل، فكلما ارتفع مستوى تعليم الفتاة، قلّت احتمالية زواجها المبكر.
ولا يقل أهمية عن ذلك تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للفتيات اللاتي أُجبرن على الزواج المبكر، ومساعدتهن على تجاوز الصدمات النفسية والاندماج في المجتمع، خاصة في ظل النقص الملحوظ في "دور إيواء كافية لدعم النساء والفتيات نفسياً" كما يشير علي الحبيب.
وعلاوة على ذلك، يجب وضع آليات صارمة لمكافحة الزيجات غير المسجلة، التي تشكل ثغرة قانونية تسمح بتزويج القاصرات بعيداً عن الرقابة، مع تعزيز دور المنظمات المدنية ودعمها بحملات توعية مكثفة تستهدف المجتمع والبرلمان، وتعزيز الحوار مع القضاء لإنهاء الموضوع أو محاولة العدول عن القانون الجديد. أخيراً، يعد تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والمجتمع المدني أمراً حاسماً لدعم الجهود الرامية إلى مكافحة زواج القاصرات في العراق، وتقديم المساعدة الفنية والمالية اللازمة، حيث إن "التأثيرات الممتدة لتمرير هذا القانون ستكون واسعة النطاق.
ومن المرجح أن تغيّر نسيج المجتمع العراقي على حساب استقلالية النساء والفتيات العراقيات وقدرتهن على اتخاذ قراراتهن بأنفسهن"، كما حذرت سارة صنبر باحثة في الشأن العراقي بهيومن رايتس ووتش.
قصة ندى، وآلاف القصص المماثلة، هي دعوة ملحة لمواجهة هذه الظاهرة.. فالمستقبل الذي ينتظره أجيال من الفتيات في العراق مرهون بالجهود المبذولة اليوم لحماية حقوقهن الأساسية، وتأمين طفولة آمنة ومستقبل مشرق لكل فتاة عراقية، فهل يمكن للمجتمع العراقي أن يتجاوز هذه التحديات ويضع حقوق طفلاته فوق كل اعتبار؟