القاتل لويجى مانجيونى.. إرهابي أم بطل مقاوم؟
القاتل لويجى مانجيونى.. إرهابي أم بطل مقاوم؟
هزت جريمة قتل الرئيس التنفيذى لكبرى شركات التأمين الصحى المجال العام الأمريكى مؤخرًا. ليس فقط لأنها وقعت أمام فندق كبير فى وسط نيويورك لكن أساسًا نتيجة طبيعتها «السياسية»، التى جعلتها تشبه جرائم الإرهاب الدولية.. فكما نعرف جيدًا فى منطقتنا فهذا النوع من الجرائم بالذات يثير الرأى العام فى الغرب. فى المقابل، الخبر يكاد لم يصل لبلادنا المنشغلة بتقلباتها المستمرة، رغم أنه يستحق النقاش، نظرًا بالذات للتأييد واسع النطاق الذى ناله القاتل «الإرهابي»، والذى فيه تشابه مهم مع نزعات تسود منطقنا منذ زمن.
إذا أردت، فيمكن أن تقول إن القاتل ينظر إلى نفسه كشبيه شى جيفارا.. وهو يأتى فعلًا، مثل «شى»، من عائلة مرموقة وميسورة، وهو كذلك عالى التعليم، وينظر لنفسه كمحرر للمظلومين الكادحين.. فى حالة «شى» كان الظلم مجسدًا فى نظره فى أنظمة لاتينية موالية للولايات المتحدة، أما فى حالة «لويجي» (هذا اسمه) فإن مصدر الظلم كامن داخل الولايات المتحدة نفسها.. بصفة عامة فإن فكرة نبل مقاومة الظلم من خلال العنف ولصالح المضطهدين فيها شىء من كونية، وإن اختلف النطاق وخلفيات وحجم «المقاومة» ومدى فاعليتها وواقعيتها من سياق لآخر.
قُتل لويجى، ممثلًا لما سماه الشركات «الطفيلية»، برصاصات كُتب على غلافها ما يلخص فى نظره طرق تربح تلك الشركات بواسطة القتل؛ عن طريق رفض وتأجيل طلبات العلاج فى سبيل توفير المال.. فالولايات المتحدة تُعتبر حالة خاصة بين الدول الصناعية من حيث إنه ليس فيها نظام صحى عام مجانى للكل، (حتى النظام الذى أسسه الرئيس أوباما يتطلب دفع اشتراكات)، وتعظيم الربح، فى غياب رقابة كافية، يمكن أن يؤدى إلى رفض تمويل الحالات الحرجة أو تأجيلها حتى يُتوفى المريض.. ويأتى الربح من طريق قتل «الزبون»، ربما بعد أن دفع اشتراكات شهرية على مدى عقود.
هذا يشرح التأييد واسع النطاق للقاتل «المقاوم»، التأييد الذى أذهل النخب الأمريكية، (التى غالبًا ما تتمتع بدرجات أعلى من الرعاية، نظام «فى آى بى»).. كما صدمها قدر الشماتة الصريحة فى رئيس الشركة المقتول: مثلًا، عندما وضعت الشركة نعيًا له على «فيسبوك»، نال المنشور أكثر من ٩٠٠٠٠ «ها ها»، وتعليقات ساخرة وشامتة عديدة، قبل أن يتم رفعه.
رد فعل النخب الأمريكية للحادث يشبه إلى حد كبير ردود أفعالها تجاه ما ينبع من منطقتنا المنكوبة من عنف عشوائى؛ نوع من التفهم السطحى من قِبَل البعض، مع رفض عام عارم، ومع تجاهل شىء مركزى فى الموضوع، وهو أن الإرهاب الدموى والهمجى يأتى أحيانًا نتيجة رد فعل لأفعال عنف ربما تكون أكثر «شياكة»، لكنها لا تقل شرًّا فى جوهرها، حتى إذا اختلف المنظر.. فقرار القتل من خلال رفض مسبب للعلاجات، محررًا بلغة تقنية أو قانونية باردة، لا شك أنه أكثر شياكة من الرمى بالرصاص فى وسط نيويورك، لكنه ما زال قتلًا متعمدًا.. وفى نظر البعض يكون أبشع لأن ضحية لويجى كان يأخذ نسبة من الأرباح الناتجة عن تقليل الإنفاق. بل هكذا تربح على وتيرة مليون دولار فى الشهر. أما لويجى «المقاوم»، فقد ضحى بحياة «الشياكة» التى أتى منها فى سبيل «قضية» عادلة.
رغم الإدانات العارمة، العمل الإرهابى قد يلفت النظر إلى مشاكل حقيقية واقعة، ويؤدى إلى مناقشات جدية فى المجتمعات المنفتحة.. لكن الكثيرين ممن يعانون بؤس حياة القاع فى الولايات المتحدة، بما فى ذلك التأمين الصحى المنقوص، (أو غير المؤمَّن عليهم تمامًا)، يبحثون عن حلول «انقلابية» من خلال التيار الشعبوى الذى يقوده «ترامب»، الذى ربما سيقلص حتى المزايا والضمانات المحدودة التى شيدها نظام أوباما الصحى، بل يشكل خطرًا على المجتمع المنفتح الذى يتيح نقاش المشاكل ومحاولة إصلاحها.. هناك رغبة فى الهدم وإعادة البناء بواسطة «يد قوية»، يتخيل المتضررون أنها ستكون فى صالحهم. مع عدم مراعاة، فى ظل فقدان الثقة واندفاع الغضب، أنه عند تدمير المجتمع المنفتح، والضوابط التى تأتى معه، ربما سيصبح حالهم أصعب، فإذا كانت بعض الهيئات والشركات تفعل بالمستضعفين ما تفعله فى ظل أنظمة المساءلة والضبط والربط السائدة فى المجتمع المنفتح المستقر، فماذا يمكن أن يحدث عندما تتلاشى الضوابط، بالذات فى ظل نزعات أمثال «ترامب» لمكافأة المحاسيب؟.
هذا مأزق من النوع الذى وقع فيه العالم العربى فى منتصف القرن العشرين حين ساندت قطاعات واسعة استبدال مجتمعات منفتحة نسبيًّا، وأنظمة ليبرالية منقوصة، بأخرى شعبوية ذات نزعات تسلطية. كان ذلك أيضًا انعكاسًا لفقدان الثقة فى الأنظمة والنخب، ومن ثَمَّ رفض مبدأ الإصلاح، وما صاحبه من تحول تأييد العنف العدمى العشوائى من مظهر احتجاج محدود نسبيًّا إلى مشروع قومى وهوية مجتمعية يتكاتف حولها الناس دون الكثير من التفكير؛ ويجتمع عليها المجتمع تلقائيًّا عند الشعور بأى تهديد داخلى أو خارجى حقيقى أو متخيل، ويؤله رموزها.
نقلاً عن المصري اليوم