عن مشكلات المحتوى الديني

عن مشكلات المحتوى الديني

لا يكاد يمر يوم إلا والفضاء العربى يشهد مخالفة صارخة تأتى عبر إحدى «القنوات الدينية»، فمرة ترد فتوى صادمة منتزعة من سياق مهجور عبر إحدى الفضائيات لتعيدنا قرونا إلى الوراء، ومرة ثانية تؤجج تصريحات يدلى بها «عالم دين» نار فتنة طائفية، ومرة ثالثة يُغرق أحد البرامج مشاهديه فى عوالم الدجل والخرافة، ومرة رابعة يستغل برنامج رغبة جماهيره العارمة فى فهم دينهم وإذكاء تدينهم، ويحولهم سلعة، عبر الاستغلال التجارى لأسئلتهم العفوية أو غير المنضبطة.

ليست تلك بالطبع جميع المخالفات التى يمكن أن تصدر عن القنوات الدينية الناطقة بالعربية، أو عن البرامج التى تقدم محتوى دينيا على الفضائيات العامة، إذ يهيمن الفقر الإنتاجى على معظم تلك الفضائيات والبرامج.

وللأسف الشديد، فإن الخيال الإبداعى للقائمين على صناعة الكثير من أنماط المحتوى الدينى يظل مقصورا عن إدراك أن ثمة العديد من الأنماط السانحة لتقديم عمل تليفزيونى جذاب انطلاقا من المنظور الدينى، ويحصرون تلك الأنماط كافة فى عدد محدود للغاية، لا يخرج عن «واعظ أو عالم أو داعية» يتحدث إلى الجمهور من جانب واحد، أو يجيب عن تساؤلات عفوية أو مُدبرة، أو محاور «مستسلم» تماما يجرى حوارا مع أحد «العلماء».

لقد زادت حدة الانتقادات الموجهة للفضائيات الدينية زيادة كبيرة فى الفترة الأخيرة، خصوصا عندما بدا أنها قادرة فعلا على تأجيج الفتن وتعميق الأحقاد بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، أو صرف الأذهان إلى موضوعات سطحية، لا تعكس الأولويات الجادة.

وتضاعفت تلك الانتقادات عندما أفرط البعض فى استغلال الأسئلة العفوية وغير المنضبطة التى ترد من قطاعات معينة فى الجمهور، أو اختلاقها، من أجل تحويل المحتوى الدينى إلى فواصل ترفيهية ومجموعة من «القفشات والإيفيهات»، يجرى اقتباسها، وعرضها على الوسائط الجديدة بانتظام.

ودفعت الانتقادات المتزايدة لأداء بعض القنوات الدينية، والبرامج التى تقدم محتوى دينيا إلى ظهور بعض الدعاوى والإجراءات الرامية لتقييد، أو الحد، أو الرقابة المباشرة، على أداء هذا النوع من المحتوى.

والواقع أن القبول المطلق بمثل تلك الدعاوى سيتعذر، فالشعوب العربية شعوب متدينة بالأساس، وهى تجل الدين وتقدسه وتضعه فى أفضل المراتب، وتستمد منه كثيرا من الإشراقات التى تتحلى بها فى نسقها القيمى وبنائها الأخلاقى.

وسيكون من الصعب المطالبة بمنع أو تقييد أو الحد من المحتوى الدينى المقدم عبر الفضاء، خصوصا أن هذا المحتوى ليس بالكثافة التى يعتقدها البعض، إذا ما قورن بأنماط المحتوى الأخرى، أو بما يقدم عبر الوسائط الجديدة.

فالبيانات الموثوقة تبين أن القنوات والمحتوى الدينيين لا يحتلان رأس أجندة أولويات الجمهور العربى، ولا يمثلان الوجهة الأولى لصانعى الفضائيات، ولا يظهران بكثافة لافتة بين أنماط المحتوى الأخرى، لذلك فليس هناك أى مبرر للحديث عن تقييد من أى نوع لإطلاق مثل تلك الفضائيات أو البرامج، خصوصا أن مجتمعات غربية تعرف درجة كبيرة من النزوع المادى، تشهد نسب مشاهدة وبثا لمحتوى دينى مقاربة لما يحدث فى العالم العربى.

لكن الإشكال الأكبر فيما يتعلق بالمحتوى الدينى العربى يعود إلى نزوع البعض إلى مخالفة قيم ومعايير مستقرة فى مجال بث المحتوى الدينى، ومنها بالطبع ضرورة عدم الطعن فى أتباع الأديان الأخرى، وعدم استخدام المحتوى الإعلامى فى استقطاب أتباع جدد، فضلا عن مخالفات التمييز والكراهية والتحريض على العنف، وإشاعة الخرافة، ومجافاة الحقائق العلمية.

يقدم هذا النوع من المحتوى أفضل الذرائع لدعاوى منع القنوات الدينية أو حظر ترخيصها، خصوصا أن تلك القنوات أفرزت نجوما باتوا رموزا للفتنة ووقودا مؤججا لها، والواقع أن المنع والحظر والتقييد لن يفيد فى وقف التجاوزات، ليس لأن المجتمع قد يعارضه لتناقضه مع الحريات فقط، لكن أيضا لأنه لم يعد ممكنا.

ففى ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، ستتكفل «الإنترنت» والهواتف الذكية وطرق البث المبتكرة عبر الأقمار الاصطناعية الأوروبية، التى يمكنها أن تدور فى ذات المدارات التى تستخدمها أقمارنا، بتقديم أفضل الفرص لـ «الدعاة» المُقيدين، لكى يصبحوا نجوما ويتضاعف عدد أتباعهم ومناصريهم مرات ومرات.

وفى عالم الوسائط الجديدة نجوم ومؤثرون من كل حدب وصوب، وهم يصنعون شهرتهم، ويحققون التأثير والنفاذ، عبر ديناميات تلك الوسائط الفائقة، واعتمادا على الحاجة المُلحة للجمهور للتزود بالمحتوى الدينى.

الناس تحتاج المحتوى الدينى، وستتعرض له عبر الوسائط المُتاحة، وهى كثيرة جدا، ومعظمها عصى على الرقابة والضبط والتقييد، وإصلاح المحتوى المقدم عبر الإعلام المؤسسى- الخاضع للسيادة الاتصالية الوطنية- وترقيته، وتعزيزه، سيكون أفضل وأعمق أثرا فى كل الأوقات.


نقلاً عن المصري اليوم




ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية