لماذا أصبح مستقبل الصحافة غامضاً؟

لماذا أصبح مستقبل الصحافة غامضاً؟
د. ياسر عبد العزيز

كان الشعور بغموض مستقبل الصحافة ماثلاً لدى بعض العاملين في المجال الإعلامي، على مدى السنوات القليلة الماضية؛ لكن هذا الشعور ما لبث أن أخذ منحى تصاعدياً باطراد، كما أنه بات يحظى بقدر كافٍ من الأدلة.

وفي التقرير السنوي الذي أصدره «معهد رويترز لدراسة الصحافة»، أخيراً، والذي اهتم بتقديم الاتجاهات الرئيسة، والتوقعات الخاصة بمجالات الصحافة والإعلام والتكنولوجيا، لعام 2025، ظهر أن معدل الثقة في مستقبل الصحافة واصل انخفاضه، ليبلغ 41 في المائة فقط، مقابل 47 في المائة العام الماضي (2024)، وهو فارق كبير؛ لكنه سيكون أكبر عندما نقارنه بعام 2022 مثلاً؛ حيث بلغ 19 نقطة.

وكما يقول المعهد، فإن تلك النتائج بُنيت على استطلاع رأي لـ326 من كبار القادة في مؤسسات إعلامية تنشط في 51 دولة؛ من بينهم 65 رئيس تحرير، و63 مديراً تنفيذياً أو مديراً عاماً، و53 رئيساً لقسم الرقمنة أو الابتكار، ما يعكس حالة من المخاوف وعدم اليقين لدى صُناع الإعلام في عدد كبير من الدول.

ويجري الحديث هنا عن وسائل الإعلام المؤسسية بطبيعة الحال؛ وهي الوسائل التي تُعرَّف بأنها «تقليدية»، وتعتمد قواعد معيارية في أداء عملها، وتخضع لنوع من المساءلة القانونية و/ أو التنظيمية، وتمتلك أنموذج أعمال مُعلناً، يضمن نمطاً من التمويل، تستخدمه في إدامة أعمالها أو تطويرها وتوسيعها.

وعند محاولة تقصي الأسباب التي أدت إلى ازدياد الشعور بعدم الثقة في مستقبل الصحافة لدى عدد من القائمين عليها، ستبرز «الشبكات الاجتماعية» في مقدمة تلك الأسباب، وذلك لا يعود لأنها استطاعت أن تحظى بجمهور أكبر؛ خصوصاً بين الأجيال الأصغر سناً، ولكن لأن أنموذج أعمالها مُصمم على التطفل على منتجات الإعلام المؤسسي في المجال الإخباري تحديداً، بشكل يحرم هذا الأخير من عوائد جهده، ويمنح معظمها للمنصات الجديدة التي تستفيد منها، من دون أن تُسخِّر لها موارد بشرية أو مادية.

لقد كان استخدام وسائل «التواصل الاجتماعي» للمُنتج الخبري لوسائل الإعلام المؤسسية أحد أكثر جوانب العوار خطورة في النظام الإعلامي العالمي السائد؛ لأن المنصات الجديدة سطت ببساطة على مقدرات الوظيفة الإخبارية للإعلام «التقليدي»، وراحت تبيعها للجمهور، وتُحصِّل العوائد، ولا تلقي لأصحاب الجهد الحقيقيين سوى بالفتات.

وجاء دخول «الذكاء الاصطناعي»، بمنتجاته المتعددة، على خط المحتوى الإخباري والمعلوماتي، ليُعمق الشكوك في مستقبل الإعلام المؤسسي؛ لأن تلك المنتجات راحت هي أيضاً تقدم مُلخصات وإفادات آنية وذكية للجمهور من دون تكاليف، وهي ماضية قدماً في تطوير نماذج أعمالها، لكي تجني الأرباح الوفيرة لاحقاً.

ليست تلك هي كل الأخبار السيئة للإعلام المؤسسي؛ لكن ظهور وتطور طبقة «المؤثرين»، ودخولهم على خط العمل الإخباري أيضاً، وفَّر أسباباً جديدة للتشاؤم بشأن مستقبل هذا الإعلام؛ إذ يحظى هؤلاء «المؤثرون» بشرائح جديدة من الجمهور يوماً بعد يوم، وعبر أُطر التقديم الناعمة والمُقتضبة والخفيفة، يصنعون وجبات إخبارية أكثر تناسباً مع ذائقة التلقي السائدة؛ خصوصاً لدى الأجيال الجديدة.a

يظل الإعلام المؤسسي يبني المؤسسة، ويُوظف الكوادر، ويُرسي المعايير، ويخضع للمتابعة أو المراقبة أو المساءلة، ويتحرى الدقة، ويصون السمعة، وينشر فرق العمل، ويجمع الأخبار، ويحررها، وينشرها، ثم تستخدمها «الشبكات الاجتماعية»، ومحركات البحث، وأدوات الذكاء الاصطناعي، و«المؤثرون» الجدد، ويزودون الجمهور بها، ويُحصِّلون العوائد، فتزدهر أعمالهم، وتبور صناعة الإعلام المؤسسي.

ولأن الإعلام المؤسسي يتأثر كثيراً بالبيئة السياسية التي يعمل خلالها، فإنه أكثر حساسية تجاه التغيرات التي تتعلق بحرية الرأي والتعبير. ورغم أن البشرية قطعت أشواطاً كبيرة في هذا المجال، وكان الغرب في مقدمة حماة تلك الحرية والداعين لصيانتها، فإن حرية الرأي والتعبير تعاني في الغرب اليوم معاناة واضحة.

وقد بات الحديث عن أزمة في حرية الرأي والتعبير، أو هجمة سياسية شرسة ضد وسائل الإعلام المؤسسية، في بلد مثل الولايات المتحدة، سائغاً، والأغرب من ذلك أن مسؤولين أميركيين في أرفع مراتب السلطة يوجهون سهام النقد الحادة لحالة الحريات الإعلامية في القارة الأوروبية.

يحدث ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف من هيمنة التيارات اليمينية والشعبوية على المجال العام في دول غربية كثيرة، ويتصاعد فيه الدور الذي تؤديه «الشبكات الاجتماعية» في الانتخابات العامة، وغيرها من آليات التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي في الغرب، ومناطق أخرى من العالم.

الصحافة المؤسسية مصلحة عامة وأساسية، والدفاع عن استدامتها ضروري، وهي تمتلك ميراثاً ضخماً من أدبيات الضبط والتنظيم وترقية الأداء، وتركها تخوض تلك المعركة غير المتكافئة وحدها ليس أمراً عادلاً ولا حكيماً.


* نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية