كابوس التعليم في اليمن تحت وطأة النزاع المسلح (قصة مدعومة بالبيانات)
كابوس التعليم في اليمن تحت وطأة النزاع المسلح (قصة مدعومة بالبيانات)
"كنت في الصف السادس عندما اندلعت الحرب، نزحت إلى منطقة قريبة من قريتي، لكنني عدت بعد شهر، وعندما استقرت الأوضاع، رجعت إلى مدرستي التي أصابها بعض الضرر بسبب القصف العشوائي، اضطررت لاحقًا للانتقال إلى محافظة تعز لاستكمال دراستي".. هكذا قال عيسى علي، طالب يمني.
وما زال النزاع المسلح في اليمن يلقي بظلاله على الحالة اليمنية، إذ يرزح الملايين من اليمنيين تحت وطأة الحرب رغم خفوتها خلال المرحلة الماضية، إلا أن آثارها ما زالت تتقاطع مع تطلعات اليمنيين لحاضرهم ومستقبلهم.
تتناثر آثار النزاع المسلح في اليمن على شتى مناحي الحياة، بداية من نزوح الملايين داخليا، مرورًا بسوء التغذية وحالات التمييز ضد المرأة، وصولًا لـ“تدني مستوى الرعاية الصحية"، وفي القلب من الحالة اليمنية المتعثرة، النظام التعليمي في البلاد وتأثيره في فرص الملايين من الأطفال في الحصول على التعليم، إذ يعاني قطاع التعليم ويلات الحرب.
يروي عيسى علي، معاناته من أجل الحصول على تعليم أفضل، إذ إنه اضطر للسفر بسبب ضعف التعليم في مدرسته، حيث كانت المدرسة قد توقفت عن العمل لمدة ستة أشهر بسبب الحرب، إذ أصابها بعض الضرر جراء القصف العشوائي، وفي ظالة حالة الاقتتال بالرغم من خفوته نسبيُا خلال الفترة الماضية، فإن عدم استقرار الأوضاع له تأثيراته في طبيعة الحياة داخل قرى ومدن اليمن.
يقول علي في حديثه لـ"جسور بوست": "التعليم في مدرستي كان متوقفًا، والمعلمون لم يستطيعوا إتمام المنهج، وهو ما أثر في تحصيلي العلمي، يمكن القول إن الحصول على تعليم جيد في اليمن أشبه بمغامرة غير محمودة العواقب".
أرقام وإحصاءات
بحسب تقرير لمنظمة اليونيسف في 2021 فإن ما يربو على مليوني طفل هم خارج المدارس بسبب الفقر والنزاع وانعدام فرص التعليم.
وفقًا للتقرير، لم يتسلم 171,600 معلم ومعلمة -ثلثا العاملين في مجال التعليم- رواتبهم بشكل منتظم لمدة أربع سنوات. فيما يضطر المعلمون للتوقف عن التدريس لإيجاد سبل أخرى لإعالة أسرهم، وهو الأمر الذي يعرّض ما يقرب من أربعة ملايين طفل إضافي لخطر فقدانهم فرص الحصول على التعليم.
ويشير التقرير إلى أن أكثر من 523,000 طفل نازح في سن الدراسة يعاني من صعوبة الحصول على التعليم بسبب عدم وجود مساحة كافية في الفصول الدراسية الحالية، إذ تضررت المدارس وتم استخدامها من قبل قوات مسلحة أو استوطنتها العائلات النازحة، كما فقد معلمون وطلبة حياتهم، وجُرحوا أو أصيبوا بصدمات نفسية.
وذهب التقرير إلى أنه من الممكن أن يصل عدد الأطفال الذين يعانون من الاضطرابات التي تلحق تعليمهم إلى 6 ملايين طالب وطالبة، كما دمرت مدارس بالكامل وخرجت من الخدمة، فيما تضررت بعض المدارس بنسب متفاوتة.
يكشف الصحفي والباحث عبد الواسع الفاتكي، عما وصفه بالواقع المرير الذي يعصف بالتعليم في اليمن، مستندًا إلى تقارير ميدانية لمراكز بحثية محلية، أنه لا يزال نحو أربعة ونصف مليون طفل خارج أسوار المدارس، في حين يواجه نصف من هم في مقاعد الدراسة خطر التسرب نتيجة الفقر والضغوط الاقتصادية.
وأوضح "الفاتكي" في حديثه لـ"جسور بوست"، إلى أن 67% من أطفال النازحين، البالغ عددهم نحو أربعة ملايين، لا يستطيعون الوصول إلى التعليم، وذلك بسبب نقص المدارس في مناطقهم. وأضاف أن نحو 2916 مدرسة قد دُمرت أو تعرضت للاستغلال العسكري، ما أدى إلى انهيار البنية التحتية للتعليم بشكل خطِر.
ومع هذا التدمير المادي والمعنوي الذي طال المؤسسات التعليمية، لم يكن التعليم العالي بمنأى عن هذه الأزمة، إذ تحولت بعض الجامعات إلى مراكز عسكرية أو تم استخدامها لتخزين الأسلحة، ما جعلها غير قادرة على أداء رسالتها التعليمية. أما الطلاب، الذين يعانون نقصاً حاداً في الكتب المدرسية والمعلمين المتخصصين، فقد باتوا يواجهون تحديات كبرى من مجرد عدم القدرة على الحصول على مواد دراسية.
يتابع "الفاتكي" حديثه، قائلاً: "إن القلق النفسي الذي يعانيه الطلاب جراء الحرب، وسوء التغذية الذي يطولهم، يزيد من تعقيد وضعهم. هؤلاء الطلاب لا يسعون فقط لملء أدمغتهم بالمعلومات، بل يحاربون من أجل البقاء والوجود في عالم يتغير من حولهم."
الهروب من البطش
وسط هذا المشهد الكابوسي، تُكتب ملحمة أخرى بأقلام الصمود، صهيب الحريبي، الطالب اليمني الذي هرب من سطوة المليشيات، حاملاً حلمه الصحفي كجواز سفر نحو الحياة.
يروي كيف حُرم من امتحانات الثانوية لرفضه الانصياع، وكيف اضطر إلى الفرار تاركاً عائلته، لكنه لم يترك كتبه القديمة التي ما زال يقلب صفحاتها تحت ضوء شمعة في منفاه الجبري.
يقول صهيب، الذي عاش التجربة بمرارتها وألمه: "لقد كانت بلحرب تأثير عميق في مسيرتي التعليمية، خاصة في مرحلة الثانوية.
تعرضت للاضطهاد من قبل مليشيا الحوثي بسبب موقفي تجاه الوطن، وحرمت من الامتحانات النهائية." إنه لم يكن مجرد طالب في مدرسة، بل كان شابًا يحارب من أجل مبادئه، ومن أجل مستقبله، ومن أجل حلمه في أن يكون صحفيًا.
فبعد أن هُدد بالاختطاف، اضطر للهروب إلى المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية، ليفقد الاتصال بأسرته، لكنه لم يفقد عزيمته في متابعة دراسته، ليصير رمزًا للصمود في وجه التحديات.
الفتيات الأكثر تسرباً من التعليم
من جانبها أعربت الناشطة الحقوقية اليمنية نورا الجروي، عن بالغ قلقها إزاء التدهور الخطِر في قطاع التعليم بالمناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين، معتبرة أن الأوضاع الراهنة تشكل تهديدًا مباشرًا لمستقبل الأجيال اليمنية.
وقالت الجروي في حديثها لـ"جسور بوست"، إن استخدام المدارس كثكنات عسكرية، لا سيما في صنعاء وتعز ومأرب وعدد من المحافظات الشمالية، يمثل "انتهاكًا صارخًا لحقوق الأطفال ويعرض حياتهم للخطر"، مشيرة إلى أن هذا الإجراء، إلى جانب الخوف من الحرب والألغام والغارات الجوية، أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التسرب من المدارس، خاصة في أوساط الفتيات، اللواتي يواجهن تحديات إضافية في ظل الظروف الراهنة.
وأكدت الجروي، أن أزمة انقطاع رواتب المعلمين، المستمرة منذ نحو ثماني سنوات، أجبرت الكثير من الكوادر التربوية على مغادرة المهنة بحثًا عن مصادر دخل بديلة، ما تسبب في نقص حاد في الكوادر التعليمية وتدهور كبير في جودة التعليم. وأضافت أن جماعة الحوثيين عمدت إلى استبدال المعلمين بكوادر موالية لها، إلى جانب تعديل المناهج الدراسية بما يخدم أيديولوجيتها الطائفية، وهو ما عدته تهديدًا مباشرًا للهوية الوطنية وللتماسك الاجتماعي في البلاد.
ودعت الجروي، المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية إلى التحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات وضمان حماية حق الأطفال اليمنيين في التعليم. وأضافت: "تحويل المدارس إلى ساحات صراع، وتجنيد الأطفال، وحرمان المعلمين من حقوقهم، والتغيير القسري للمناهج الدراسية، كلها ممارسات يجب أن يُحاسب مرتكبوها. إن مستقبل جيل كامل مهدد، ويتطلب الأمر تدخلًا فوريًا لإنقاذ ما تبقى من المنظومة التعليمية في اليمن".
مدارس تأن من الحرب
وفي مدرسة الفاروق التي تشبه غرفة إنقاذ منهوكة، تقف ريماء الحريبي تُحارب بقلب لا يعرف الاستسلام. تشرح كيف توزع الكتب الممزقة كفُتات خبزٍ بين الطلاب، وكيف يُصارع المعلمون الجوع لمواصلة التدريس دون رواتب منذ سنوات: "نشتري الأملَ بثمنٍ باهظ، لكننا نعلمُ أن كلَّ حرفٍ نتعلمه هو انتصارٌ صغيرٌ على الموت".
تقول ريماء، الطالبة في مدرسة الفاروق: "أنا لا أدرس فقط من أجل التفوق، بل من أجل مستقبل أفضل لي ولبلادي"، لكنها، على الرغم من عزيمتها، تواجه صعوبات حقيقية في حياتها الدراسية، فالمدرسة التي تدرس فيها هي واحدة من كبريات المدارس في المديرية، لكنها تعاني نقصاً حاداً في المباني التعليمية والكتب المدرسية، حيث يتم توزيع الكتب القديمة المتهالكة على الطلاب.
وتضيف: “في بعض الأحيان نضطر لشراء الكتب بأسعار مرتفعة، في حين أن المعلمين يواجهون صعوبات في الحصول على رواتبهم، ما يضطرهم للعمل في وظائف أخرى”.
وقالت ريماء بنبرة يملؤها الأمل رغم كل شيء: "نحن نواصل دراستنا رغم كل الصعاب، لأننا نعلم أن التعليم هو السبيل الوحيد لتغيير واقع بلادنا، ورغم قسوة الظروف، يظل أملنا قائمًا في أن العلم سيقودنا إلى غدٍ أفضل".
حلول لأزمة التعليم في اليمن
يرى دكتور أمين الحميدي، باحث في ملف التعليم، أن الأزمات التي تعصف بواقع التعليم اليمني نتيجة حرب استمرت عاماً واحداً فقط، لكن نتائجها تجاوزت العقد من الزمان، ما بين تدمير كبير للبنية التحتية، وصولاً لنزوح الملايين، وتسرب ما يقرب من ٥ ملايين طالب وطالبة، وإنتهاءً بأزمة المعلمين وعدم حصولهم على أجور عادلة.
ويضع "حميدي" خلال حديثه لـ"جسور بوست"، ما وصفه بالحلول الممكنة من أجل تخطي الأزمة الحالية، والتي تبدأ بالعمل على منح التراخيص للعديد من مدراس القطاع الخاص، بالإضافة إلى إنشاء وتجهيز العديد من المدارس الجديدة الحكومية.
ويتابع: "العمل على استيعاب كثير من الطلاب المتضررين في المدراس المجاورة، استبدال جزء كبير من الكتب الدراسية الورقية بالكتاب أو الكتب المدرسية الإلكترونية، وكذلك استبدال الفاقد من المعلمين بالعديد من المعلمين المتطوعين، وختاماً يجب رؤية الأزمة بمنظور أوسع وعدم الاتكالية على الحكومة وحالة التيه السياسي التي يعيشها المجتمع اليمني، وذلك من خلال الإسهامات المجتمعية في دفع الأجور أو جزء منها للمعلمين بصورة شهرية".