باعت مجوهراتها لتأسيس معهد تعليمي.. فاطمة الحريبي تصنع الأمل من رحم الحرب في اليمن

باعت مجوهراتها لتأسيس معهد تعليمي.. فاطمة الحريبي تصنع الأمل من رحم الحرب في اليمن

أنا لست شابة كما يدّعون.. أنا امرأة في الأربعينات، ريفية بسيطة، طموحة وحالمة، أمٌ لفتاتين، أراهنّ أملي ومشروعي، كما يراني المجتمع سيدة مجتمع نبيلة الأصل والمنبت، وحاضنة أحلام لنساء وأطفال عابرين للحرب".

هكذا بدأت فاطمة الحريبي حديثها بهدوء يشبه سكون الريف، ودفء الأمومة، لكنها في العمق نارٌ لا تنطفئ، امرأة بدأت من الرماد، صنعت من الخسارات أعمدة لمؤسسة معرفية، وحولت الألم إلى حلم كبير.

فاطمة الحريبي حاصلة على بكالوريوس تربية، قسم اللغة الإنجليزية من جامعة تعز، لم تكن أحلام فاطمة صغيرة ولا موسمية، بل متجذّرة كالأرض التي نشأت فيها.

نجحت فاطمة في إنشاء مركز تعليمي "Non stop" وهو مبادرة تعليمية تأسست في عام 2015 في قرية حجامة، عزلة الضعة، مديرية الصلو بمحافظة تعز، اليمن.

المعهد يقدم برامج تعليمية وتدريبية متنوعة، تهدف إلى تمكين النساء والفتيات من خلال التعليم والتدريب المهني، ما يساعدهن على تحقيق الاستقلال الاقتصادي والمشاركة الفعالة في المجتمع. وقد أصبح المعهد مصدر إلهام لنساء عدة في المنطقة، حيث تمكن العديد منهن من بدء مشاريعهن الخاصة والإسهام في إعالة أسرهن.​

الحرب تأكل الأخضر واليابس

الحرب هي الحرب، تأكل الأخضر واليابس، تحرق الأرض وتحول كل ما عليها إلي رماد وبقايا أحلام وذكريات، قالت "الحريبي": "كنتُ امرأة تنهض من تحت الرماد. أرفض الخنوع والضعف، أؤمن بالحرية وبقدراتي"، هكذا تصف فاطمة قرارها المصيري.

تصف فاطمة الحرب بأنها جرح لا يندمل..، قائلة "حطّمت فينا أشياء لا تُعوّض، أحلام تنتحر، ووطن يتفكك، وشباب يُقتل معنويًا وجسديًا. لكن التجربة رمّمتني.. جعلتني أضيء شمعة بدلًا من أن ألعن الظلام، وشجّعت من حولي على إشعال شموعهم".

لم يكن الطريق سهلاً، فقد كانت فكرة إنشاء معهد تعليمي ومركز لتنمية المرأة في كل قطاعات الحياة حلمًا يرافقها منذ كانت طالبة جامعية. لكن الحرب في تعز وتهجيرها إلى قريتها كادا يدفنان هذا الحلم إلى الأبد.

القرية كانت في أيام السلم، المنطقة الأكثر سكينة، أرض الأباء والأجداد، تهرب إليها العائلات في الأعياد والإجازات لتنعم ببعض من الهدوء، لكن العودة هذه المرة بحثًا عن الحياة من جديد، قالت فاطمة: "حين عدنا إلى القرية، لم تكن زيارتنا كسابقاتها. كنا نأتي في الأعياد ونعود إلى المدينة.. لكن هذه المرة لم تكن عودة، بل لجوء".

القرية، على بؤسها، بدت لفاطمة أكثر رحمة من تعز الملطخة بالدماء.. “كنا نسمع صوت الحرب ونشتم رائحة البارود، فكانت الأرض والزرع والحمير أفضل لنا من صمت المدن المحترقة”.

التلاميذ خلال حصة دراسية

ما فعلته الحرب في اليمن

تروي "فاطمة" كيف كانت الحرب تقتل كل أمل يتجدد: "تركت الحرب فينا جميعًا شيئًا لا يقال، لا تصفه الكلمات، حطمت فينا أشياء كثيرة لا تعوض، نرى بأم أعيننا أحلامًا تنتحر، ووطنًا متشظيًا، وشبابًا مدمرًا ونساءً ثكلى، وجيلًا فاقد الثقة، وانهيارًا كاملًا للقطاعات الخدمية، والكل في متاهة لا يعرف الخروج منها"، لذا كان لزامًا أن يحرك أحدٌ ساكنًا، أن يلقي حجرًا في الماء الراكد، أن يتخذ الخطوة الأولى.

وقالت: "الإيمان بالقدر كان ملجأنا الوحيد. كنا نرى في أعين أطفالنا سؤالًا لا يرحم: وماذا بعد؟

كانت الفكرة أن يكون لهؤلاء فرصة للتعلم لعل إحداهن تغير الواقع، فتولدت فكرة كبرت يومًا تلو الآخر، قررت بيع جواهرها، بل ورهنت قطعة أرض زراعية غالية جدًا على قلبها، ورثتها من والدها رحمه الله.

كان ذلك هو السبيل الوحيد لترجمة الحلم إلى واقع. تقول فاطمة: "مخاطرة كبيرة جدًا، لكنها ولدت من رحم الإيمان بالفكرة، رأيت المعاناة في حياة النساء الريفيات، المعاناة ذاتها التي عشتها يومًا، رأيت الأمل يتلاشى من عيون الأطفال، فقررت أن أمنحه فرصة جديدة للحياة".

سألتها من غيّر حياة فاطمة الحريبي، قالت: “ربما لم أتغيّر.. ربما نضجت، أشياء كثيرة أسهمت في تشكيل فاطمة الجديدة؛ المعاناة، الطلاق، الأمومة، المسؤوليات، وربما كل ما سبق.. كلها لحظات صنعت مني امرأة مختلفة، لكن ليست غريبة عن ذاتها”.

لحظات الضيق والبكاء

في تلك اللحظات التي لم تكن فيها جدران بيتي ضيقة فحسب، بل كان الكون الفسيح ضيق علينا نحن الأمهات، ونحن نحمل أحلامنا وأطفالنا، ونيران الحرب تلحق بنا في المدن والبوادي، تحرق أرواحنا وتقتل الأمل في عيون صغارنا، والحماقة تتصدر الموقف، والحكمة والعقل مركونان في زاوية مظلمة خلفنا، لا يأبه لهما أحد ونحن في نفق مظلم موحش، كنت حينها أرى ضوءًا خافتًا يتسلل بخجل من آخر النفق المظلم، يقول لي افعلي شيئًا ما.

لا تخجل "الحريبي" من الإشارة إلي لحظات الضعف التي تملكتها في بعض الأحيان والانهيارات التي جعلت منها امرأة أكثر قوة، قائلة: "نعم، كنت أبكي، أصرخ، وأكتب، ولكني لا أجيد فن الصمت، كنت أخرج لحوش الدار وأزرع شجرة، أي شجرة".

وتابعت: "ولكني يروق لي كثيرًا زراعة البن والورد، تعطيك هذه الشجرة روحًا جميلةً، تكبر أمامك، تنشغل بها كطفل صغير، وتهرب من تساؤلات عقلك التي لا تنتهي بما ستؤول إليه الأمور، وبهذا تهرب من واقعك العام كمواطن في بلد أنهكه الاحتراب، إلى واقعك الخاص ترى فيه أشجارك تورق وتثمر، وأزهارك تتفتح".

التلاميذ خلال تلقي دروسهم

المعهد لم يبدأ من فتاة

"لم تكن هناك أول فتاة في المعهد"، قالت فاطمة، لأن الفكرة لم تولد ناضجة، بل مرت بمراحل طويلة.

وأضافت: “حين أُغلقت المدارس في وجوه أطفالنا، كنا قد خرجنا من مدينة تعز، حاملين معنا الخوف والقليل من الأمتعة، وتركنا كل شيء خلفنا.. حتى دفاتر بناتي وأحلامنا”.

بدأت فاطمة بتدريس بناتها وأطفال القرية في جامع قديم، "استخدمنا الباب الخشبي المطلي بالأسود كسبورة. الأطفال كانوا يستمتعون بالألعاب التي نبتكرها، وضحكاتهم كانت بلسمًا لقلوبنا المثقلة بالهموم".

ثم انتقلوا إلى شقة تطوّع بها أحد الأهالي، ريثما تُجهز القاعات الدراسية التي تطلبت وقتًا وجهدًا كبيرين".

بحلول 2018، انتقل الحلم من الجامع المهجور إلى شقة صغيرة، ثم إلى مبنى المعهد الذي أصبح مركزاً لتنمية المرأة. هنا، تُدرّس الفتيات القراءة والكتابة، وتتعلّم النساء حِرفاً يدوية كالخياطة وإدارة المشاريع الصغيرة، في حين يُعيد الأطفال اكتشاف فرحة التعلم عبر أنشطة تفاعلية تُعيد لهم براءة طفولة سرقتها الحرب.

الحمير وسيلة نقلٍ للتعلم

"حين أفتح باب المعهد صباحًا، أتساءل: أو قد جعلها ربي حقًا؟".. فاطمة ترى التعب في عيون الفتيات القادمات من القرى البعيدة وتشعر بالخجل: "أتمنى لو أستطيع تقريب الخدمة لهن، أواسيهن، قائلة: المعاناة تصنع النجاح. هذه الصعوبات ستجعلكن فاطمة أخرى".

قالت فاطمة: "دائمًا ما أشعر بالفرح حين يخبرني أحدهم بأن المعهد كان نقطة تحول في حياته، لكن هناك فتاة واحدة شعرت أني فعلًا صنعت فرقًا حقيقيًا في حياتها".
زوجها ذهب للقتال بعد أن فقد عمله، ووقع أسيرًا، جاءت للمعهد حائرة، ووجدت طريقها فيه، اليوم تعمل متطوعة في مدرسة، تنير الطريق لطلابها، تمامًا كما أنار المعهد طريقها.

حين سألت فاطمة عن حلمها الشخصي، الحلم الذي لا علاقة له بالمعهد أو بالمجتمع، صمتت قليلًا، ثم أجابت بصوت دافئ: "لأول مرة يسألني أحد هذا السؤال، ربما حلمي الوحيد هو أن أرى بناتي، صُبا وهيا، صالحات، مصلحات، ورائدات في مجالاتهن، أما أنا.. فأتمنى أن أكون صوت المرأة الريفية في المحافل العالمية، أحمل رسالتها وأحلامها".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية