لا مكان للنجاة.. الأمم المتحدة توثق انهيار الحماية الإنسانية في غزة
لا مكان للنجاة.. الأمم المتحدة توثق انهيار الحماية الإنسانية في غزة
وصفت الأمم المتحدة الوضع الإنساني في قطاع غزة بـ"الكارثي"، مشيرة إلى انهيار شبه كامل لمقومات الحياة بعد أكثر من 21 شهرا من التصعيد العسكري الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023.
ووفقاً لتحديث مكتب "أوتشا" الصادر في 8 يوليو الجاري، فإن ما لا يقل عن 74% من المرافق الصحية و62% من بنية المياه والصرف الصحي قد خرجت عن الخدمة، فيما يعيش أكثر من مليوني فلسطيني -نصفهم من الأطفال- في ظروف غير صالحة للحياة.
وأكدت الأمم المتحدة أنه لم يعد هناك "مكان آمن" في غزة، وأن أوامر الإخلاء لا تُعد بديلاً عن حماية المدنيين. ففي مدينة خان يونس، طُلب من آلاف النازحين إخلاء مناطقهم رغم اكتظاظها بخيام الإيواء المؤقتة.
وتقترب أزمة الوقود من نقطة حرجة، إذ حذرت "أوتشا" من نفاد الإمدادات خلال أيام، مما يهدد بوقف العمل في المستشفيات ومحطات المياه والاتصالات، وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوغاريك إن سيارات الإسعاف تتعطل، والمستشفيات تقلّص خدماتها، وأنظمة المياه على وشك الانهيار.
وفي قلب الكارثة، حذرت منظمة الصحة العالمية من انهيار مستشفى ناصر الطبي، فيما أكدت أن الطواقم تعمل بأضعاف طاقتها دون معدات كافية أو أدوية. وأشار ممثل المنظمة، ريك بيبركورن، إلى أن المستشفى "تحول إلى غرفة طوارئ مفتوحة بلا توقف".
ورغم محاولات الأمم المتحدة لتنسيق دخول المساعدات، فإن 8 من أصل 12 قافلة إنسانية فشلت في العبور خلال الأسبوع الأول من يوليو، بعضها تعرّض للمنع أو الإرجاع رغم التنسيق المسبق، ما أدى إلى وفيات بين الجرحى الذين كانوا في انتظار الإخلاء.
حصار يخنق غزة
ويستمر الحصار الإسرائيلي في خنق غزة، حيث تُمنع الإمدادات الغذائية والطبية والوقود من دخول القطاع، ووفق منظمة "أطباء بلا حدود"، فإن أكثر من 3,400 مصاب بحاجة إلى إجلاء عاجل، من بينهم أطفال يعانون من حروق وإصابات خطيرة، لكن لا توجد آلية واضحة لإخراجهم.
وقد نزح أكثر من 1.7 مليون شخص داخليًا، وفقًا لتقديرات "أوتشا"، ويعيش كثيرون في خيام لا توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة، ويحصل الفرد في هذه الظروف على أقل من لتر من المياه النظيفة يوميًا، ويواجه آلاف الأطفال انقطاعًا تامًا عن التعليم في ظل تدمير البنية التعليمية بنسبة تفوق 77%.
وارتفعت حالات الولادة غير الآمنة، وتوفيت 14 سيدة منذ بداية يوليو في الخيام، كما بدأت مؤشرات لأوبئة مثل التيفوئيد والكوليرا بالظهور، وسط غياب مراكز الحجر والاستجابة الطبية.
وفي ظل عجز مجلس الأمن الدولي عن اتخاذ قرار ملزم، اعتبرت مفوضة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ندى النمري أن ما يحدث في غزة هو "فشل أخلاقي جماعي"، مؤكدة أن الهجمات تستهدف المدنيين والبنية التحتية المدنية بشكل ممنهج، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني.
العالم يشاهد والكارثة تتفاقم
قال الحقوقي الفلسطيني محمد العروقي، إن ما تشهده غزة لا يمكن مقارنته بأي كارثة أخرى على وجه هذا الكوكب. إذ إنّ ما يجري في القطاع منذ أكثر من 650 يومًا، هو نموذج حيّ على الإبادة الجماعية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنها مأساة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ الحروب الحديثة، تتجلى في قصف متواصل من الجو والبر والبحر، واستخدام ممنهج للقوة ضد المدنيين العزّل، في خرق صارخ لكل الأعراف والقوانين الدولية.
وأكد العروقي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن ما يُمارس على سكان غزة هو "قتل متعمد"، يستهدف كل مظاهر الحياة، وليس فقط الإنسان. إذ لم ينجُ من هذا العنف شيء: لا البنية التحتية، ولا النظام الصحي، ولا التعليم، ولا حتى المسكن الآمن، مضيفا: "نتحدث هنا عن شعب بأكمله يعيش حالة استنزاف مطلق على مدار ما يقارب العامين، لا كهرباء، لا مياه، لا وقود، لا غذاء، وحتى الأدوية باتت حلمًا بعيد المنال، والمستشفيات التي ما زالت تعمل بالكاد، أشبه ما تكون بغرف إسعاف مؤقتة لا ترتقي إلى أدنى معايير الإنسانية".
وتابع العروقي: "إن هذا العدوان المتواصل أدى إلى تدمير الحياة اليومية بكل تفاصيلها، فتوقفت عجلة الاقتصاد، وشُلت حركة الناس، وأصبح الحصول على الاحتياجات الأساسية رحلة محفوفة بالموت، حتى الهواء لم يعد نقيًا، بل مشبعاً برائحة الدم والبارود والغبار، وأصوات القصف باتت لحنًا يوميًا تعزفه الآلة العسكرية على أذن كل طفل وشيخ وامرأة".
ورأى أن هذا الواقع المرير يُقابل بعجز دولي مخزٍ وغير مبرر، وكأن العالم قد اعتاد رؤية أشلاء الفلسطينيين تحت الأنقاض، دون أن يحرك ساكنًا. وأردف: "ما نشهده هو صمت دولي مخجل، أو تواطؤ مقنّع، إن لم يكن تجاهلًا مقصودًا. فالمشهد لم يعد يحتمل التفسير، ومن غير المقبول أن تُترك غزة لتواجه مصيرها بهذه الوحشية في غياب أي تدخل فعال".
وأشار الحقوقي الفلسطيني إلى أن مسؤولية ما يحدث لا تقع فقط على عاتق إسرائيل، بل تمتد إلى المجتمع الدولي بأسره، الذي بات شريكًا بالصمت، وموضع مساءلة أخلاقية وقانونية، موضحا أن فشل المنظومة الدولية في فرض حد أدنى من الحماية للمدنيين في غزة، يُعد إنذارًا مبكرًا لانهيار النظام القانوني والإنساني العالمي برمّته.
وأضاف: "إذا استمر هذا التجاهل، فستكون مناطق أخرى في العالم مرشحة لمصير مماثل، لأننا بصدد ترسيخ سابقة مفادها: يمكن سحق شعب بأكمله دون محاسبة".
ولفت العروقي إلى ضرورة تمكين المنظمات الدولية الإنسانية، وعلى رأسها وكالة الأونروا، من أداء دورها الإغاثي والإنساني في قطاع غزة دون عوائق، محذرًا من أن بعض الأطراف، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، تحاول فرض منظمات بديلة لا تحمل من الإغاثة إلا اسمها، بينما هي في الواقع، كما وصفها، "ماء الموت في غزة". وشدد على أن هذه الدول يجب أن تُسأل قانونيًا عن دورها في عرقلة العمل الإنساني، وتجب محاسبتها أمام القانون الدولي.
وحذر العروقي من الأثر النفسي المُدمر الذي تركته هذه الحرب في نفوس الأطفال، مؤكدًا أن من وُلدوا في ظل هذه الإبادة، أو وعيوا عليها وهم في عمر الخامسة أو السادسة، يحتاجون إلى سنوات طويلة من العلاج النفسي والتأهيل الاجتماعي. وقال: "الكبار بالكاد يتحملون ما يحدث، فكيف بالأطفال الذين يسمعون القصف على مدار الساعة؟ من يعانون من الجوع والمرض، ومن الحر صيفًا والبرد شتاءً، دون مأوى أو طمأنينة؟".
وقال العروقي، إن ما يحدث اليوم في غزة ليس فقط جريمة حرب، بل جريمة في حق الإنسانية جمعاء، وإن استمرار العالم في تجاهل معاناة مليوني إنسان، سيقود حتمًا إلى نتائج كارثية، ليس فقط على الشعب الفلسطيني، بل على النظام الأخلاقي العالمي كله، مضيفا: "من يُرِد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عليه أن يتحرك الآن، لا غدًا، لأن كل لحظة تأخير تعني مزيدًا من الموت، ومزيدًا من العار في سجل الإنسانية".
إبادة ممنهجة وصمت دولي
قالت الدكتورة إيمان بخيت، المتخصصة في الشأن الإسرائيلي الفلسطيني، إن الوضع الإنساني في قطاع غزة يتدهور بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، حتى بات يمثل مأساة كبرى في التاريخ الحديث. فمع اقتراب العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع من عامه الثاني دون توقف أو بارقة أمل في الوصول إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، باتت غزة تعيش جحيمًا حقيقياً فوق الأرض، حيث لا ملجأ من الموت ولا ملاذ من الدمار.
وأضافت بخيت، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذه الحرب، التي تُعد الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تجاوزت كل حدود المعقول والمعايير الأخلاقية، وكسرت كل ما اعتُبر يوماً قواعد لا يجوز انتهاكها حتى في زمن الحروب. إذ إن ما يجري في غزة لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة إبادة جماعية وتطهير عرقي ممنهج بحق شعب أعزل، يُعاقب بكامله على جريمة لم يقترفها سوى أنه يسكن في الجغرافيا الخطأ.
وأكدت أن جميع المواثيق الدولية، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، تضع قواعد صارمة تحظر استهداف المدنيين، وتلزم جميع الأطراف المتنازعة بحمايتهم وتوفير احتياجاتهم الأساسية، إلا أن القوات الإسرائيلية تتعامل مع سكان غزة، من أطفال ونساء وشيوخ، بوحشية صارخة، تقرع أبواب الموت دون تفرقة أو رحمة، متجاوزة بذلك، ليس فقط القوانين الدولية، بل والحد الأدنى من الإنسانية.
واعتبرت بخيت أن الحصار المفروض على القطاع، وما يرافقه من منع دخول المساعدات الإنسانية وشاحنات الوقود، هو جريمة إضافية، تُستخدم فيها سياسات التجويع والحرمان كأسلحة حرب. فالوقود، الذي يمثل شريان الحياة لأي مجتمع، يُمنع عن غزة، ما يؤدي إلى شلل تام في البنية التحتية، حيث تتوقف المولدات الكهربائية، وتجف صنابير المياه، وتتكدس مياه الصرف الصحي، وتتعطل المستشفيات وأفران الخبز ومركبات الإسعاف. وهو ما يشكل انتهاكًا صارخًا لحق الإنسان الأساسي في الحياة، ويمثل شكلًا من أشكال العقاب الجماعي المحظور دوليًا.
وشددت على أن المسؤولية القانونية والأخلاقية للمجتمع الدولي واضحة وصريحة، فبموجب القانون الدولي، وبالذات اتفاقيات جنيف، تُعد حماية المدنيين التزامًا دوليًا لا يحتمل التأويل أو التخاذل. ويجب على الدول والمنظمات الدولية ألا تكتفي بمواقف خجولة أو بيانات شجب روتينية، بل أن تمارس ضغطًا حقيقيًا لوقف هذه الانتهاكات، والعمل العاجل لإدخال المساعدات، وضمان المساءلة، لأن الصمت والتقاعس في مثل هذه الحالة هو تواطؤ غير مباشر واستمرار في تعميق جراح الضحايا.
وأشارت بخيت إلى أن الحرب على غزة تختلف عن غيرها من النزاعات المسلحة في كونها تستهدف بشكل مباشر البنية التعليمية والطبية، في انتهاك فاضح ومتعمد لكافة القوانين الدولية، إذ أصبح من المعتاد أن تُقصف المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء، دون أي اعتبار للتحذيرات الدولية أو نداءات المنظمات الحقوقية، كما يتم تجاهل الآليات القانونية المتبعة لحماية هذه المنشآت، كضرورة وضع علامات دالة، أو تواجد مراقبين دوليين، مما يضاعف من حجم الجريمة ويعكس استخفافاً بكل الأعراف.
وأكدت أن الأطفال في غزة هم أكبر الخاسرين، إذ يعاني كثيرون منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة، والعزلة النفسية، وتراجع القدرة على مواصلة التعليم في بيئة تنعدم فيها أدنى مقومات الطمأنينة، أما النساء، فتعيش كثيرات منهن تحت وطأة الفقد والحزن، بعدما خسرن أبناءهن أو أزواجهن، إلى جانب معاناتهن من الفقر والعنف الأسري في ظل انعدام الأمان. ويمضي هذا كله في تشكيل مستقبل مأزوم، يغذيه الغضب، ويهدده تفكك النسيج الاجتماعي وولادة جيل مشوه نفسيًا، قد يكون وقوداً لاستمرار دوامة العنف وعدم الاستقرار في المنطقة بأسرها.
وشددت بخيت على أن الكارثة في غزة ليست مجرد مأساة إنسانية، بل اختباراً حقيقياً لضمير العالم، ومرآة تعكس مدى جدية النظام الدولي في تطبيق ما يرفعه من شعارات حول الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان.