بين واقع مرير ومطالب حقوقية وإنسانية.. "جسور بوست" ترصد أوضاع المعتقلين السياسيين في العالم العربي
بين واقع مرير ومطالب حقوقية وإنسانية.. "جسور بوست" ترصد أوضاع المعتقلين السياسيين في العالم العربي
تُمثل قضية المعتقلين السياسيين في العالم العربي إحدى أكثر الملفات إيلامًا وتعقيدًا في سجل حقوق الإنسان بالمنطقة، فبينما تتصاعد الدعوات الدولية لاحترام الحريات الأساسية وسيادة القانون، تستمر التقارير الحقوقية في توثيق انتهاكات ممنهجة تُطول آلاف الأفراد –نشطاء، وصحفيين، ومحامين، وأكاديميين- لمجرد تعبيرهم عن آراء مختلفة أو ممارستهم لحقوقهم المشروعة.
تهدف "جسور بوست" من خلال هذا التقرير إلى الغوص عميقًا في واقع هذه القضية، محللاً الدوافع الكامنة وراء استمرار هذه الممارسات، ومستعرضًا الرؤية الحقوقية والقانونية الدولية، ليختتم بتوصيات عملية للمجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية.
واقع مرير
تتشارك العديد من الدول العربية في ممارسات قمعية متشابهة تجاه المعارضين، هدفها واحد: إحكام القبضة على السلطة وإسكات أي صوت معارض. تشمل هذه الممارسات: الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وغالبًا ما تتم عمليات الاعتقال دون مذكرات قضائية أو أدلة كافية، مستندة إلى قوانين فضفاضة مثل قوانين مكافحة الإرهاب أو التجمهر، وتزداد الخطورة بالإخفاء القسري، حيث يُحرم المعتقل من التواصل مع العالم الخارجي، في محاولة لكسر إرادته وإخفاء آثار الانتهاكات.
التعذيب وسوء المعاملة الممنهج، حيث تُشير التقارير الحقوقية إلى استخدام التعذيب بشكل منهجي في مراكز الاحتجاز بهدف انتزاع الاعترافات أو معاقبة المعتقلين. تتنوع أساليب التعذيب لتشمل الضرب المبرح، الصدمات الكهربائية، الحرمان من النوم والطعام، بالإضافة إلى الإيذاء النفسي والجسدي.
المحاكمات الجائرة وغياب العدالة، حيث تُصبح المحاكمات العسكرية أو محاكم أمن الدولة أدوات فعالة لإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين السياسيين، وتفتقر هذه المحاكم غالبًا إلى أبسط ضمانات المحاكمة العادلة، مثل الحق في الدفاع الكافي واستقلالية القضاء.
الاحتجاز المطول وظروف السجن المتردية، حيث يبقى الآلاف رهن الاحتجاز لسنوات دون محاكمة، أو يصدر بحقهم أحكامًا بالسجن لمدد طويلة بناءً على اتهامات ملفقة. يُضاف إلى ذلك ظروف الاحتجاز المتردية التي تشمل الاكتظاظ، سوء التغذية، والإهمال الطبي المتعمد، ما يؤدي إلى تدهور صحة العديد من المعتقلين، وصولاً إلى الوفاة في بعض الأحيان.
لماذا تلجأ الحكومات للاعتقال السياسي؟
لا تُعد ممارسات الاعتقال السياسي مجرد حوادث فردية، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تتبعها بعض الحكومات لعدة أسباب رئيسية منها ترسيخ السلطة المطلقة وقمع المعارضة، حيث يُعد الاعتقال السياسي الأداة الأكثر فاعلية لإسكات الأصوات المعارضة، وتخويف أي محاولة لتنظيم سياسي مستقل أو احتجاج سلمي، فمن خلال سجن المنتقدين، تُرسل الأنظمة رسالة واضحة لكل من يفكر في التحدي بأن مصيره سيكون خلف القضبان.
السيطرة على الفضاء العام والرواية الرسمية، حيث تسعى هذه الحكومات إلى فرض روايتها الخاصة للأحداث والسيطرة التامة على الخطاب العام. اعتقال الصحفيين، والمدونين، والأكاديميين يُمكنها من التحكم في المعلومات ومنع أي سرد بديل قد يُشكل تحديًا لسلطتها أو يُفشي حقائق غير مرغوب فيها.
تصفية حسابات سياسية و"تطهير" للمجتمع، ففي بعض الحالات، يُستخدم الاعتقال السياسي كأداة لتصفية حسابات مع تيارات سياسية معينة، أو "تطهير" المؤسسات الحكومية والخاصة من أي عناصر تُشتبه في عدم ولائها، ما يُؤدي إلى تشريد وإقصاء عدد كبير من الكفاءات.
خلق حالة من الخوف واللامبالاة، فالهدف الأعمق من هذه الممارسات هو خلق جو عام من الخوف يُجبر الأفراد على التزام الصمت والابتعاد عن أي نشاط سياسي. هذا المناخ القمعي يعوق نمو المجتمع المدني المستقل ويُشجع على اللامبالاة السياسية، ما يضمن بقاء السلطة بلا منازع.
تغيير التركيبة الديموغرافية والسياسية، ففي بعض الأحيان، تُستخدم الاعتقالات والاضطهاد كجزء من استراتيجية أوسع لتغيير التركيبة الديموغرافية أو السياسية لمناطق معينة، خاصة في المناطق التي تشهد حركات احتجاجية أو معارضة قوية.
الرؤية الحقوقية والقانونية الدولية
تتنافى ممارسات الاعتقال السياسي بشكل صارخ مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقانون الدولي، تستند الرؤية الدولية إلى عدد من الصكوك والمعاهدات الملزمة التي تُؤكد حقوق الأفراد ومنها:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948): يُعد حجر الزاوية، ويُؤكد الحق في الحرية والأمان الشخصي (المادة 3)، وعدم التعرض للتعذيب (المادة 5)، والحق في محاكمة عادلة وعلنية (المادة 10).
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966): يُلزم الدول بعدم حرمان أحد من حريته تعسفًا، ويُحظر التعذيب أو المعاملة القاسية واللاإنسانية (المادة 7)، ويُشدد على الحق في محاكمة عادلة وضمانات الدفاع (المادة 14)، بالإضافة إلى حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات (المواد 19، 21، 22).
اتفاقية مناهضة التعذيب (1984): تُلزم الدول الأطراف باتخاذ كل التدابير الفعالة لمنع التعذيب في أي إقليم يخضع لولايتها.
إن البيانات الدقيقة حول أعداد المعتقلين السياسيين في العالم العربي تبقى سرية للغاية، لكن تقديرات منظمات حقوق الإنسان الدولية (مثل منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، وبعض المنظمات المحلية) تُشير إلى وجود عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين في السجون، مع اختلاف الأرقام والتركيز حسب كل بلد، على سبيل المثال، تُقدر منظمات حقوقية أن أعداد المعتقلين السياسيين في سوريا بلغ ما لا يقل عن 136 ألف معتقل خلال عهد النظام السابق، بينما ما زال مصير مئات الآلاف من الأشخاص مجهولاً تحت عبارة في عداد المفقودين.
نحو مستقبل يحترم الكرامة الإنسانية
لمواجهة هذا الواقع المرير، وفق آراء حقوقية يجب على المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية تبني مقاربة شاملة تتجاوز الإدانات اللفظية إلى إجراءات ملموسة وفعالة من بينها:
تفعيل الضغط الدبلوماسي والاقتصادي حيث يجب على الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وغيرها من القوى الفاعلة، ربط العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بشكل مباشر بسجلات حقوق الإنسان، ويمكن أن يشمل ذلك فرض عقوبات مستهدفة على المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة، ووقف صفقات الأسلحة أو المساعدات التي قد تُستخدم في قمع المعارضين.
تعزيز آليات المراقبة والمحاسبة الدولية من خلال تفعيل لجان التحقيق الدولية المستقلة لتوثيق الانتهاكات وجمع الأدلة، والعمل على تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، سواء من خلال المحاكم الوطنية في الدول التي تُطبق الولاية القضائية العالمية، أو من خلال المحكمة الجنائية الدولية في حال توفر الشروط.
دعم وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني عبر تقديم الدعم المالي والسياسي لمنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية التي تعمل على توثيق الانتهاكات وتقديم المساعدة القانونية للمعتقلين وأسرهم، كما يجب الضغط لحماية هؤلاء النشطاء من المضايقات والاعتقالات.
دعم المبادرات القانونية الدولية من خلال تشجيع الدول على الانضمام إلى المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان التي لم تُصدق عليها بعد، والتعاون مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مثل المقررين الخاصين وهيئات المعاهدات.
جامعة الدول العربية ودورها المأمول
كما تتضمن المطالب الحقوقية أنه يجب على جامعة الدول العربية تجاوز دورها التقليدي والاضطلاع بمسؤوليتها في حماية حقوق الإنسان داخل الدول الأعضاء، يمكن أن يشمل ذلك إنشاء آليات مراقبة مستقلة، وتفعيل ميثاقها لحقوق الإنسان، وتشجيع حوار بناء بين الحكومات والمجتمع المدني، وكذلك التوعية وبناء القدرات من خلال دعم برامج التوعية بحقوق الإنسان في المجتمعات العربية، وبناء قدرات النشطاء والمحامين والصحفيين لتمكينهم من المطالبة بحقوقهم ومواجهة الانتهاكات بشكل فعال.
إن قضية المعتقلين السياسيين في العالم العربي هي وصمة عار على جبين الإنسانية، وتُشكل عائقًا حقيقيًا أمام الاستقرار والتنمية المستدامة في المنطقة، وإن تحقيق العدالة لهؤلاء المعتقلين وتحريرهم ليس مجرد مطلب حقوقي، بل هو أساس لأي مستقبل ينشد الحرية والكرامة والعدالة، وإن صمت المجتمع الدولي أو تردده يُشجع الأنظمة على الاستمرار في قمع شعوبها، ومن هنا، تأتي أهمية التضامن والضغط المستمر من أجل عالم يُحترم فيه حق كل إنسان في التعبير والعيش بحرية وأمان.