فصل أكثر من 200 موظف في وزارة العدل.. حملة إقصاء تُقوّض استقلال القضاء الأمريكي
فصل أكثر من 200 موظف في وزارة العدل.. حملة إقصاء تُقوّض استقلال القضاء الأمريكي
في صباح يوم أربعاء صيفي، تلقت المدعية العامة الفيدرالية مورين كومي رسالة فصل مفاجئة، لتنتهي مسيرتها المهنية دون تفسير. كومي، ابنة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي، لم تكن موظفة عادية، فقد عملت على ملفات ثقيلة: كقضية جيفري إبستين، والمحاكمة الأخيرة لقطب الموسيقى شون كومبس، وقضايا جنائية معقدة ذات حساسية سياسية.. لكنها واحدة من عشرات المحترفين الذين طُردوا خلال الأشهر الماضية، فيما يراه مراقبون حملة تطهير غير مسبوقة.
كشفت صحيفة "واشنطن بوست"، في تقرير موسع نشرته اليوم الأحد، أن وزارة العدل الأمريكية، تحت إدارة دونالد ترامب، فصلت خلال ستة أشهر أكثر من 200 موظف محترف، من بينهم 40 مدعيًا عامًا على الأقل.
شملت عمليات الفصل التي نُفذت -غالبًا- دون تحذير أو تفسير موظفين عملوا في مكاتب المدعين العامين، ومحققين في مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، وموظفين في مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات (ATF).
ووفقًا لمنظمة "جاستس كونيكشن"، المعنية بالدفاع عن موظفي وزارة العدل السابقين، فإن عمليات الطرد استهدفت بدرجة كبيرة أولئك الذين شاركوا في محاكمات ترامب، أو حققوا في اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021.
تستند الوزارة في قراراتها إلى المادة الثانية من الدستور الأمريكي، التي تُخول للرئيس سلطة تنفيذية شاملة، لكن المحامي مارك زيد، الذي يُمثل بعض المفصولين، وصف تفسير ترامب لهذه المادة بأنه يعكس منطق "أنا الملك، وأنتم تعملون لديّ".
ويضيف زيد، وهو محامٍ متخصص في قانون العمل منذ أكثر من ثلاثة عقود، أنه لم يشهد من قبل حملة فصل بهذه الحدة والتسييس.
تهديد لسيادة القانون ومبدأ المساواة
أثارت موجة الإقالات قلقًا واسعًا لدى المدافعين عن حقوق الإنسان وسيادة القانون، قالت أستاذة القانون بجامعة ميشيغان والمدعية العامة السابقة، باربرا ماكوايد، إن استقلال المدعين العامين هو أحد أعمدة النظام الديمقراطي الأمريكي، وإن تسييس هذه المناصب يهدد بجعل وزارة العدل مجرد أداة بيد الرئيس.
كما صرّح رئيس منظمة "شراكة الخدمة العامة"، ماكس ستير، بأن هذه الإجراءات تُعيد البلاد إلى ما يشبه نظام "المحسوبية" الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر، حين كان الرؤساء يوزعون المناصب كمكافآت سياسية.
تشير تقارير من وكالة "رويترز" إلى أن الإقالات طالت أعضاءً من فريق جاك سميث المكلف بالتحقيق في قضايا ترامب السرية، فصل هؤلاء المحامين أثر سلبًا على نزاهة الملفات الجارية، ودفع موظفين آخرين إلى الاستقالة أو المغادرة خوفًا من الانتقام.
قال مايكل جوردون، المدعي العام السابق الذي شارك في قضايا اقتحام الكابيتول، إنه فُصل بعد تقييم أداء إيجابي بيومين فقط، وأضاف: "وزارة العدل، التي يُفترض بها تطبيق القانون، باتت تتجاهل قوانينها الخاصة، وتضع الانتقام قبل العدالة".
شهادات مؤلمة ودعوات للمقاومة
كتب عدد من المدعين المفصولين رسائل وداع عبر مواقع التواصل، أبرزهم جوزيف تيريل، كبير محامي الأخلاقيات بالوزارة، الذي قال إن قسمه لم يكن يتضمن عبارة: "أدعم الدستور فقط حين يكون ذلك سهلاً".
أما مورين كومي، فاختارت أن تُلهم زملاءها رسالة شجاعة: "الخوف أداة الطاغية.. دعوا هذه اللحظة تُشعل نار السخط العادل ضد إساءة استخدام السلطة".
يحذر المراقبون من أن هذه الإقالات تُقوّض ثقة الشعب في حيادية القضاء، وتفتح الباب أمام إنشاء وزارة عدل مُسيسة بالكامل، وفي ظل تهديدات عالمية كالحروب السيبرانية والكوارث المناخية، فإن إضعاف المؤسسات القانونية يُعرض المجتمع الأمريكي للخطر.
وفي هذا الإطار، يقول المدعي العام السابق في أريزونا، بول تشارلتون: "إذا فقد الناس ثقتهم بأن قرارات وزارة العدل تُتخذ بناءً على القانون وليس الولاء السياسي، فإن ذلك يدمر المؤسسة من الداخل".
ما يجري في وزارة العدل الأمريكية لا يخص شؤون التوظيف فقط، بل يمس أسس دولة القانون، ويعيد طرح تساؤلات جوهرية عن حدود سلطة الرئيس، وحق الموظف في الحماية من التعسف السياسي، واستقلال السلطة القضائية، إنها لحظة حرجة في تاريخ المؤسسة القضائية الأمريكية، تتطلب تدخلًا دستوريًا وقضائيًا عاجلًا، دفاعًا عن العدالة، والمساءلة، والحق في العمل المستقل.