في تحدٍّ للدستور والحريات.. الانتقام الفيدرالي من "مدن الملاذ" يقوّض ثقة المجتمعات
ترامب يلجأ إلى الإغراق الأمني
في واحدة من أكثر الهجمات التصعيدية التي تستهدف حقوق المهاجرين في الداخل الأمريكي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن "مدن الملاذ" أصبحت رسميًا في صدارة أولويات حملات الترحيل الجماعي، مؤكدًا أنه "سيُغرق المنطقة" بعناصر الهجرة الفيدرالية.
جاء التصريح على خلفية حادثة إطلاق نار في مدينة نيويورك، اتُّهم فيها شخص غير موثق، ما أعاد الجدل حول السياسات المحلية التي تحمي المهاجرين غير النظاميين من تسليمهم إلى السلطات الفيدرالية.
وتعهّد توماس هومان، القائم بأعمال مدير وكالة الهجرة والجمارك الأمريكية في ولاية ترامب الثانية، بأن تعمل الوكالة على "الوفاء بوعد الرئيس ترامب" من خلال تكثيف وجود عملاء الهجرة الفيدراليين في المجتمعات التي تتبنى سياسات الحماية، فيما وصفه بأنه رد مباشر على ما سماه "انعدام التعاون" من قبل سلطات هذه المدن، التي يديرها غالبًا ديمقراطيون.
نيويورك في مرمى التصعيد
جاء التصعيد الجديد في أعقاب إطلاق نار على ضابط جمارك خارج الخدمة في حديقة ريفرسايد بنيويورك، حيث تم اتهام ميغيل فرانسيسكو مورا نونيز، وهو مهاجر غير موثق من جمهورية الدومينيكان، بتنفيذ الهجوم.
نونيز، بحسب تصريحات وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم، كان قد اعتُقل أربع مرات منذ دخوله الولايات المتحدة بشكل غير قانوني في 2023، وتم إطلاق سراحه بسبب سياسات الملاذ الآمن المتبعة في المدينة.
وفي مؤتمر صحفي أعقب الحادثة، قال هومان: "كل مدينة آمنة غير آمنة.. مدن الأمان هي ملاذ للمجرمين، والرئيس ترامب لن يتسامح مع ذلك". وأضاف: "ما سنفعله هو نشر المزيد من العملاء في مدينة نيويورك للبحث عن ذلك المجرم، حتى تحصل مدن الملاذ الآمن على ما لا تريد، المزيد من العملاء في المجتمع، والمزيد من العملاء في مواقع العمل".
الملاذ جريمة سياسية؟
في تحليل أعدته مجلة تايم، أوضحت أن الهجوم الجديد على مدن الملاذ ليس وليد اللحظة، بل امتداد لاستراتيجية ترامب منذ ولايته الأولى، فقد أصدر ترامب في أول يوم له بالرئاسة أمرًا تنفيذيًا بعنوان "حماية الشعب الأمريكي من الغزو"، يستهدف تجفيف تمويل هذه المدن، ويدعو لمحاكمة مسؤوليها جنائيًا ومدنيًا.
وتضيف المجلة أن إدارة ترامب الثانية تتبنى هذه المرة نبرة أكثر عدوانية، وتُصعّد خطواتها التنفيذية والقانونية ضد حكومات محلية مثل سان فرانسيسكو وبوسطن ونيويورك.
وتُعرَّف مدن الملاذ على أنها ولايات قضائية تحدّ من تعاون سلطاتها المحلية مع إدارة الهجرة والجمارك، رفضًا لتحويل ضباط الشرطة المحليين إلى أذرع لإنفاذ سياسات الترحيل الفيدرالية، وقد وجدت دراسات، أبرزها دراسة من جامعة كامبريدج عام 2020، أن هذا النوع من التعاون يؤدي إلى تراجع الإبلاغ عن الجرائم ويقوّض السلامة العامة.
الأمن لا يبرر التمييز
تؤكد منظمات حقوقية مثل "مشروع الحقوق العامة" و"الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" أن سياسات ترامب لا تستند إلى بيانات موضوعية، بل إلى تكتيكات تخويف تعاقب المهاجرين جماعيًا بسبب جرائم فردية.
تقول رئيسة مشروع الحقوق العامة، جيل هابيج، إن "ربط الهجرة بالإجرام هو وصفة لخلق مناخ عدائي داخل المجتمعات الأمريكية، حيث يخاف الناس من طلب المساعدة أو الإبلاغ عن العنف".
وتضيف: "سياسات الملاذ ليست مجرّد مبادئ أيديولوجية، بل تعكس واقعًا أمنيًا أفضل.. عندما يشعر المهاجرون بالأمان، يزيد التعاون مع الشرطة، وتنخفض معدلات الجريمة".
وهذا ما أكدته أيضًا دراسة أجراها مركز التقدم الأمريكي، التي بيّنت أن مقاطعات الملاذ تشهد معدلات جريمة أقل من غيرها، بانخفاض يصل إلى 35.5 جريمة لكل 10,000 شخص مقارنة بغيرها من المقاطعات.
الحق في عدم التعاون
في ظل التوتر المتصاعد، أعادت مدن مثل سان فرانسيسكو ونيوهافن وبورتلاند التأكيد على موقفها، ورفعت دعاوى ضد إدارة ترامب أمام القضاء الفيدرالي.
ويقول المدعي العام لسان فرانسيسكو، ديفيد تشيو: "لدينا الحق الدستوري في سنّ سياساتنا المحلية، ولا يحق للحكومة الفيدرالية أن تبتزنا ماليًا أو قانونيًا لإجبارنا على مخالفة التعديل العاشر والدستور الأمريكي".
ويضيف تشيو أن المحاكم الأمريكية رفضت خلال الولاية الأولى لترامب محاولات مماثلة لتجريم سياسات الملاذ، ورفضت المحكمة العليا حينها النظر في قرار يؤيد المدن، وهو ما يُعد سابقة قضائية مهمة لصالح الحريات المحلية.
عسكرة المجتمع المحلي
يرى مراقبون حقوقيون أن لغة هومان وتصريحاته العنيفة تكشف انزلاقًا خطيرًا في الخطاب الرسمي الأمريكي نحو عسكرة الحياة المدنية وربط المهاجرين غير النظاميين بالإرهاب والجريمة، وهو أمر له آثار اجتماعية ونفسية خطيرة.
فعندما يقول: "إذا لم نتمكن من إلقاء القبض عليه في السجن، سنقبض عليه في الشارع، وإذا كان مع آخرين غير موثقين، سنعتقلهم أيضًا"، فهذا يفتح الباب أمام ممارسات واسعة للاعتقال الجماعي والعشوائي قد تنتهك التعديل الرابع من الدستور الذي يحمي من التفتيش والاعتقال غير المبررين.
ويقول المحامي الحقوقي راؤول إسبينوزا: "ما يحدث الآن هو تطبيع لاستهداف جماعي بناءً على وضع الهجرة، وليس على سلوك جنائي، وهذا انتهاك مباشر للحقوق المدنية".
وفي الوقت الذي تسوّق فيه إدارة ترامب خطواتها بوصفها استجابة أمنية لحماية المجتمع، يتضح من سياق الأحداث أن ما يجري هو استخدام سياسي لحادثة فردية من أجل فرض أجندة أوسع تتعلق بترحيل جماعي يستهدف الملايين.
ويؤكد هومان نفسه أن "نحو 70% من المعتقلين هم مجرمون"، إلا أن هذه النسبة لا تُفصح عن أن الغالبية من هؤلاء ارتكبوا مخالفات بسيطة أو جرائم غير عنيفة، وفقًا لتحليل من نيويورك تايمز سابقًا.
وبينما تمضي الحكومة الفيدرالية في إصدار تهديداتها بتقليص التمويل، وإرسال عناصر إلى الشوارع والمرافق، تبقى الأسئلة الحقوقية قائمة: هل تُبرر حادثة جنائية واحدة قلب سياسات بأكملها؟ وهل يحق للحكومة أن تُجبر المجتمعات على خيانة ثقة سكانها؟