أزمة راديو ليبرتي.. كيف يتحوّل الاعتماد الصحفي في كازاخستان إلى أداة للقمع؟
أزمة راديو ليبرتي.. كيف يتحوّل الاعتماد الصحفي في كازاخستان إلى أداة للقمع؟
في مشهد مقلق يختزل أزمات حرية الإعلام في كازاخستان، أقدمت وزارة الخارجية الكازاخستانية منتصف يوليو الجاري على رفض تجديد اعتماد 16 صحفيًا يعملون في القسم الكازاخستاني لإذاعة أوروبا الحرة/راديو ليبرتي، المعروفة محليًا بـ"راديو أزاتيك"، وهي خطوة وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش بأنها هجوم صارخ على حرية الصحافة وتقييد متعمد للأصوات المستقلة التي تغطي قضايا غالبًا ما تغيب عن وسائل الإعلام الحكومية.
ورغم أن هذه الخطوة جاءت مفاجئة للبعض، فإنها، في نظر مراقبين ومنظمات دولية، ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من القيود التي تفرضها السلطات الكازاخستانية منذ سنوات على الإعلام المستقل، ما جعل البلاد تتراجع في مؤشر حرية الصحافة إلى مراكز متأخرة عالميًا.
وتذرعت السلطات الكازاخستانية بأن الصحفيين عملوا "دون اعتماد"، استنادًا للمادة 30 (4) من قانون الإعلام، التي تُلزم الصحفيين الأجانب بالحصول على اعتماد رسمي. لكن المثير للجدل، وفق الدعوى القضائية التي رفعتها إذاعة "أزاتيك"، أن الصحفيين المستبعدين مواطنون كازاخستانيون يعملون لمؤسسة إعلامية دولية، وبالتالي لا ينطبق عليهم هذا النص القانوني حرفيًا.
وبحسب المركز القانوني للإعلام الذي يمثّل الإذاعة قضائيًا، تجاوزت الوزارة أيضًا المدة القانونية للبتّ في طلبات الاعتماد (شهران) بمدّة إضافية دون تقديم مبررات واضحة، ما أدى فعليًا إلى حرمان الصحفيين من ممارسة عملهم لفترة طويلة، ورغم المحاولات القضائية لاستعادة الاعتماد، رفضت الوزارة أي تسوية أو مصالحة، لتظل القضية عالقة حتى الآن.
تقييد الإعلام عبر البيروقراطية
ليست هذه الحادثة معزولة؛ إذ تؤكد "هيومن رايتس ووتش" وجود نمط ممنهج لدى السلطات في كازاخستان في استخدام الإجراءات الإدارية كوسيلة لإسكات الصحافة المستقلة، ففي عام 2022، واجه صحفيو "أزاتيك" عراقيل مماثلة، وفي 2024 رفضت الحكومة اعتماد 36 صحفيًا، قبل أن تتراجع بعد ضغوط دولية.
وتشير تقارير "مراسلون بلا حدود" إلى أن السلطات تعتمد بشكل متزايد على أدوات قانونية وإدارية معقدة: كالحجب المؤقت للمواقع، وفرض غرامات باهظة، واتهام الصحفيين بالعمل دون اعتماد، بدلًا من الاعتقال المباشر الذي يثير عادةً إدانات أوسع.
كازاخستان، الدولة الأكبر في آسيا الوسطى، كانت قد وعدت بتحسين واقع حرية الصحافة منذ احتجاجات 2022، التي كشفت هشاشة علاقتها مع الإعلام المستقل. غير أن المراقبين لاحظوا أن الانفتاح ظلّ محدودًا ورمزيًا.
وبحسب تقرير الاتحاد الدولي للصحفيين، تُسيطر السلطات الكازاخستانية فعليًا على الجزء الأكبر من المشهد الإعلامي من خلال تمويل مباشر أو غير مباشر للمؤسسات الكبرى، بينما تكافح وسائل الإعلام المستقلة والمدونات للبقاء وسط تضييق تشريعي وتمويل محدود.
ويقول هيو ويليامسون، مدير قسم أوروبا وآسيا الوسطى في هيومن رايتس ووتش: "حرمان صحفيي إذاعة أوروبا الحرة من العمل هو رسالة تحذير لبقية وسائل الإعلام المستقلة: لا تغطوا ملفات حساسة كالفساد أو القمع السياسي أو العنف القائم على النوع الاجتماعي".
أصوات تواجه خطر الاختفاء
تنبع أهمية "أزاتيك" وغيرها من المؤسسات المستقلة من تركيزها على ملفات غالبًا ما تُهمَل في الإعلام الرسمي: الفساد المالي، التفاوت الاجتماعي، قضايا حقوق المرأة، وممارسات الشرطة والأجهزة الأمنية، ومع كل خطوة تقييدية، تتراجع هذه التغطيات لصالح رواية رسمية موحّدة.
وفي تقريرها السنوي لعام 2024، صنفت "مراسلون بلا حدود" كازاخستان في المركز 122 عالميًا من أصل 180 بلدًا، محذرة من "تزايد المضايقات القضائية" و"حملات تشويه" تطول الصحفيين المستقلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتجاوز الأمر استهداف الصحفيين ليطال حق الجمهور الكازاخستاني في الوصول إلى المعلومات، كما يقول خبراء حقوق الإنسان. فغياب تغطيات مستقلة يعني تراجعًا في الشفافية والمساءلة، ما يزيد من الفساد ويوسّع الفجوة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
وتشير دراسة صادرة عن لجنة حماية الصحفيين إلى أن تراجع الإعلام المستقل في كازاخستان أدى لانخفاض ثقة الجمهور بالمؤسسات الإعلامية، وتحول قطاع واسع من الشباب إلى مصادر خارجية أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي بدورها أصبحت هدفًا للرقابة الحكومية.
وانضمت كازاخستان إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، الذي يكفل حرية التعبير والإعلام، كما خضعت لمراجعة دورية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يناير 2025، حيث أوصت عدة دول بتحسين أوضاع الصحفيين والمدونين، لكن كازاخستان لم تدعم غالبية هذه التوصيات بشكل صريح.
يقول محللون إن هذه المفارقة بين الالتزامات الدولية والممارسات الفعلية باتت سمة مميزة للسلطات الكازاخستانية، التي تكتفي بتغييرات شكلية دون مساس بجوهر السيطرة على الإعلام.
نضال قانوني في وجه العزلة
رغم الصعوبات، يواصل صحفيو "أزاتيك" وآخرون جهودهم عبر القضاء، وتحركات تضامن من منظمات محلية ودولية/ لكنهم يواجهون، إضافة للعراقيل الإدارية، وتهديدات أمنية وضغوطًا مالية، فيما تعتمد السلطات سياسة "الإنهاك البطيء" بدلًا من المواجهة العنيفة، في محاولة لتقليص حضور الإعلام المستقل تدريجيًا.
رغم أن أزمة استهداف الصحفيين في كازاخستان بلغت ذروتها مع حجب اعتماد 16 صحفيًا من إذاعة أوروبا الحرة/راديو ليبرتي هذا العام، فإنها تأتي امتدادًا لسياق سياسي أوسع يشهد تضييقًا مستمرًا على الحريات الإعلامية منذ احتجاجات يناير 2022.
تلك الاحتجاجات، التي اندلعت بسبب ارتفاع أسعار الغاز ثم تحولت إلى مطالب سياسية أوسع، دفعت السلطات إلى تكثيف قبضتها الأمنية بدلًا من الانفتاح الديمقراطي الموعود.
فعلى مدار العامين الماضيين، عُدلت القوانين المنظمة للإعلام لتمنح وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية سلطات واسعة في رفض الاعتمادات أو سحبها بدعوى حماية الأمن القومي، مع إلزام وسائل الإعلام الأجنبية بمتطلبات مرهقة مثل فتح مكاتب تمثيل محلية والخضوع لمراقبة المحتوى.
وبينما يُروّج لهذه التعديلات رسميًا على أنها تنظيم مهني، يرى مراقبون أنها تقوّض جوهر استقلال الإعلام وتحصر الرواية العامة في إطار حكومي واحد.
في هذا المناخ المتوتر، لم يقتصر التضييق على الإعلام التقليدي؛ بل امتد ليشمل الصحفيين المستقلين والمدونين ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، الذين تعرض بعضهم لمحاكمات بتهم نشر معلومات كاذبة أو التحريض، فضلًا عن تلقي تهديدات واستدعاءات أمنية متكررة وصلت أحيانًا إلى ترهيب أفراد أسرهم، وانعكس هذا القمع أيضًا في مؤشرات دولية؛ إذ تراجع ترتيب كازاخستان في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025 إلى المركز 126 من أصل 180 بلدًا، بعد أن كان مستقرًا نسبيًا حول المركز 120 في السنوات الماضية.
وتظهر استطلاعات محلية تراجع ثقة الجمهور في الإعلام الرسمي، ما دفع قطاعات واسعة وخاصة الشباب للاعتماد على قنوات بديلة مثل "تليغرام" و"يوتيوب"، وهي بدورها لم تسلم من محاولات الحجب والرقابة.
وفي المقابل، صدرت بيانات قلق وإدانة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن تأثيرها بقي محدودًا في ظل اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية ترجّح كفة المصالح على ملفات الحريات، هكذا يتواصل المشهد في كازاخستان، حيث يدفع الصحفيون والمجتمع ثمنًا باهظًا للحق في المعرفة، وسط سياسات رسمية تُقدّم الأمن السياسي على حساب حرية الكلمة.
قضية اعتماد صحفيي "أزاتيك" تجسد معركة أوسع بين رغبة المجتمع في معرفة الحقيقة، وإصرار السلطة على التحكم في الرواية، وتكشف في الوقت نفسه عن أهمية التضامن الدولي والضغط الحقوقي للحفاظ على فسحة الحرية الضيقة المتبقية في كازاخستان.