الوضع الكارثي في غزة.. أزمة إنسانية تكشف تقاعس المجتمع الدولي

الوضع الكارثي في غزة.. أزمة إنسانية تكشف تقاعس المجتمع الدولي
معاناة الجوعى في غزة

في ظل صمت دولي مطبق وخذلان إنساني غير مسبوق، تتكشف فصول كارثة إنسانية طاحنة في قطاع غزة؛ نتيجة للحرب الإسرائيلية المستمرة، التي لم تدمر البنية التحتية فحسب، بل فتكت بالأرواح وخلفت وراءها جحيمًا من الجوع والمرض واليأس.

"إن ما يحدث في غزة اليوم، ليس مجرد أزمة، بل هو أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمي"، على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي استنكر "اللامبالاة والتقاعس" الدولي أمام حجم الدمار غير المسبوق.

"جسور بوست" تسلط الضوء في هذا التقرير على الأبعاد الحقوقية والإنسانية لهذه الكارثة المتفاقمة.

شهادات وأرقام مفزعة

تتصاعد التحذيرات الأممية والدولية بشأن تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، حيث أشار المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فيليب لازاريني، إلى أن ما يحدث في القطاع هو "مجاعة جماعية مُدبرة ومُتعمدة"، هذه الكلمات الصادمة تلخص واقعًا مريرًا، حيث يموت الأطفال جوعًا، وتنهك أجسادهم الضعيفة بفعل سوء التغذية. 

وأفادت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بارتفاع عدد الأطفال الذين لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية إلى 80 طفلاً منذ أبريل الماضي، بزيادة قدرها 54% في أقل من ثلاثة أشهر، وفقًا للمدير الإقليمي لمنظمة اليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إدوارد بيجبيدير، هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي صرخات استغاثة لأرواح بريئة تزهق في ظل عجز دولي مشين.

يكشف لازاريني عن أن نظام توزيع المساعدات الحالي، والذي أطلق عليه اسم "مؤسسة غزة الإنسانية"، غير مصمم لمعالجة الأزمة الإنسانية، بل يخدم أهدافًا عسكرية وسياسية. 

ويكشف عن وجود ما يعادل 6000 شاحنة من المساعدات الغذائية والطبية التابعة للأونروا عالقة في مصر والأردن، ما يؤكد أن الأزمة ليست في نقص المساعدات، بل في عرقلة وصولها، "عكس مسار المجاعة المتفاقمة لا يمكن أن يحدث إلا بإرادة سياسية"، هكذا يقول لازاريني، محذرًا من أنه "إذا خذلنا الفلسطينيين في غزة، فمن المرجح أن يخذل آخرون أيضًا في المستقبل. دعونا لا نؤسس لسابقة خطيرة لا رجعة فيها".

تحديات الوصول وقيود الإغاثة

يؤكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن الأوضاع الكارثية في غزة تتدهور بشكل سريع، وأن الجوع وسوء التغذية يزيدان مخاطر الإصابة بالأمراض التي تضعف المناعة، ما يجعل العواقب مميتة بشكل سريع، وفي ظل تزايد أعداد الوفيات بسبب الجوع، تتضاءل المساعدات التي تدخل القطاع ولا تكفي الاحتياجات الهائلة. 

وفي الوقت الذي دخلت فيه عشرات آلاف الشحنات من الإمدادات غزة أثناء فترة وقف إطلاق النار المؤقت سابقًا، لتصل المساعدات الغذائية إلى جميع السكان تقريبًا، تفرض السلطات الإسرائيلية الآن قيودًا صارمة على توصيل المساعدات، ما يقوض جهود الإغاثة والاستجابة للاحتياجات المتنامية.

وحذر توم فليتشر، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، من أن غزة تتضور جوعًا، ودعا إلى وقف إطلاق النار، مشددًا على أن الأمم المتحدة مستعدة للتواصل مع أي شريك لضمان وصول المساعدات، ولكن أي شراكة يجب أن تلتزم بالمبادئ الدولية المقبولة (الإنسانية، والنزاهة، والحياد، والاستقلال)، ما يعني توجيه المساعدات حيث تشتد الحاجة إليها بدون تمييز، وقد قدم فليتشر خطة استجابة لثلاثين يومًا لتوسيع نطاق المساعدات إذا ما توفرت البيئة الملائمة، مؤكدًا ضرورة ذلك لتلبية الاحتياجات الملحة لسكان غزة.

نداءات أممية متكررة

في خطاب أمام الجمعية العالمية لمنظمة العفو الدولية، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن صدمته من حجم ونطاق الأحداث في غزة: "لا أستطيع تفسير مستوى اللامبالاة والتقاعس الذي نراه من قبل الكثيرين في المجتمع الدولي، انعدام الرحمة، وانعدام الحقيقة، وانعدام الإنسانية"، وتحدث عن الأطفال الذين يتمنون الذهاب إلى الجنة “لأنهم على الأقل، كما يقولون، سيجدون الطعام هناك”.. هذه الكلمات تحمل في طياتها مأساة حقيقية ووصمة عار على جبين الإنسانية.

وشدد غوتيريش على ضرورة العمل للوصول إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن فورًا ودون قيد أو شرط، وتأمين وصول إنساني فوري ودون عوائق، وخطوات عاجلة وملموسة لا رجعة فيها نحو حل الدولتين، إن هذه المطالب ليست مجرد شعارات، بل هي الحد الأدنى لإنقاذ ما تبقى من الإنسانية في غزة، ومنع انهيار كامل للنسيج الاجتماعي والحياة البشرية.

موقف المنظمات الحقوقية

العديد من المنظمات مثل منظمة العفو الدولية (Amnesty International) وهيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) وخبراء الأمم المتحدة يؤكدون أن إسرائيل تستخدم التجويع سلاح حرب ضد المدنيين في غزة، هذا يُعتبر انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني.

وينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC Statute) على أن "تعمد استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك إعاقة إمدادات الإغاثة عمداً على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف"، يُشكل جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية، وقد تم تعديل النظام ليشمل النزاعات غير الدولية أيضاً.

وتُشير الأدلة إلى القيود المفروضة على دخول المساعدات، وتدمير البنية التحتية المدنية (مثل المخابز والمزارع)، ومنع الوقود، واستهداف مناطق توزيع المساعدات، وكلها عوامل تسهم في تفاقم المجاعة بشكل متعمد، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر 2024 أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بشأن "جريمة حرب تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب".

العقاب الجماعي 

يعتبر الكثير من الخبراء القانونيين والمنظمات الدولية الحصار المفروض على غزة، والقيود المشددة على دخول البضائع وحركة الأفراد، وكذلك الاستهداف واسع النطاق للبنية التحتية، يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي للسكان المدنيين في غزة، وهذا محظور بشكل صريح بموجب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة.

يرى الحقوقيون أن العقاب الجماعي لا يستهدف فقط الأفراد المتورطين في الأعمال العدائية، بل يستهدف مجمل السكان، ما يؤدي إلى تدهور شامل في ظروف حياتهم وحرمانهم من الحقوق الأساسية.

ولا يمكن فهم الأزمة الإنسانية الحالية في غزة بمعزل عن السياق التاريخي المعقد. فالقطاع، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون نسمة، يخضع لحصار إسرائيلي خانق منذ عام 2007، ما أدى إلى تدهور مستمر في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. هذا الحصار حول غزة إلى سجن كبير، حيث يعاني السكان من قيود مشددة على حركة الأفراد والبضائع، وانهيار في البنية التحتية، ونقص حاد في الخدمات الأساسية، الحرب الحالية لم تأتِ إلا لتفاقم هذه الأزمة المتجذرة، دافعة بالقطاع إلى حافة الهاوية.

ووثقت تقارير عديدة لمنظمات حقوق الإنسان الدولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، تأثير هذا الحصار الطويل في الحياة اليومية للفلسطينيين بغزة، وتدهور القطاع الصحي، وتصاعد معدلات البطالة والفقر، والأزمة الراهنة هي نتيجة مباشرة لتراكم هذه الضغوط والسياسات التي تنتهك القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان الأساسية.

وتُشكل الأزمة في غزة حالة دراسية معقدة للعديد من انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وتتفق معظم الآراء الحقوقية على أن الوضع الحالي يتجاوز بكثير "الأضرار الجانبية" للنزاع المسلح، ويُشير إلى انتهاكات ممنهجة لالتزامات دولية أساسية، ما يستدعي تدخلاً دوليًا أكبر ومساءلة حقيقية لضمان العدالة للضحايا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية