غزة بين أنياب الجوع ونيران القصف.. حين يتحول الحصار إلى سلاح إبادة صامتة

غزة بين أنياب الجوع ونيران القصف.. حين يتحول الحصار إلى سلاح إبادة صامتة
طفل فلسطيني مصاب بالهزال الشديد جراء الجوع في غزة

بين ركام المباني المدمرة وأنين الجرحى في المستشفيات المنهكة، يعلو صوت آخر أكثر قسوة في قطاع غزة هو صوت البطون الخاوية، أجساد أطفال تذبل حتى الموت، وأمهات يراقبن احتضار صغارهن دون قدرة على إنقاذهم، في هذه البقعة المحاصرة منذ سنوات، لم يعد القتل يأتي فقط من السماء بالقصف، بل صار يأتي ببطء أشد قسوة: الموت جوعًا.

وفق أحدث بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، ارتفع عدد الشهداء جراء الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى 59,587 شهيدًا وأكثر من 143,498 مصابًا، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء.

مستشفيات تتحول إلى غرف موت بطيء

المشاهد الواردة من غزة تثير صدمة ودهشة حتى لدى أشد الناس قسوة، أطفال يموتون بسبب الجوع ونقص الأدوية التي كان يمكن شراؤها بدولارات قليلة، في مستشفى “أصدقاء المريض” شمال غزة، لفظ خمسة أطفال أنفاسهم الأخيرة خلال أسبوع واحد فقط بسبب الجوع، بعدما فشلت أجسادهم الهزيلة في مقاومة سوء التغذية.

وقالت الدكتورة رنا صبوح، العاملة مع منظمة “ميدغلوبال” الأمريكية، واصفة الوضع: “هؤلاء الأطفال لا يستطيعون حتى البكاء. أجسادهم واهنة، عيونهم غائرة، أطرافهم كالعصي.. نشهد نوعًا جديدًا من الموت لم نره من قبل”.

أرقام تنزف

بلغ عدد الوفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية حتى الآن 113 وفاة، بينهم 81 طفلاً، بحسب وزارة الصحة، وسط تحذيرات من تصاعد هذه الأرقام مع استمرار الحصار الإسرائيلي ومنع دخول المساعدات.

تقرير الأمم المتحدة حذر من أن 90% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فيما يحتاج أكثر من 100 ألف طفل وسيدة إلى علاج عاجل من سوء التغذية.

في يوليو وحده، توفي 13 طفلًا بسبب الجوع، بينما تشير تقارير أممية إلى أن طفلًا من كل خمسة أطفال يعاني من الجوع الحاد.

وقائع من قلب العتمة

الطفلة سيوار (4.5 أعوام) ماتت بسبب نقص البوتاسيوم.

يزن، طفل عمره عامان، أصبح هيكلًا عظميًا، تطعمه أسرته "ماء الباذنجان" لغياب الحليب والطعام.

نور رياض، رضيعة في شهرها الثامن، وصلت إلى مستشفى الشفاء بحالة هزال شديد وتوفيت سريعًا.

حتى الطواقم الطبية تكابد الجوع والإرهاق؛ بعض الممرضات يضطررن لحقن أنفسهن بالمحاليل لمواصلة العمل.

يقول الدكتور أحمد الفرا، مدير قسم الأطفال في مستشفى ناصر: “لا أحد في غزة بمنأى عن الجوع، حتى أنا كطبيب أبحث عن الدقيق لعائلتي”.

انهيار النظام الصحي

مع استمرار الحصار الإسرائيلي لأشهر ومنع دخول المساعدات، بلغ الوضع الصحي في غزة المرحلة الخامسة، الأشد خطورة وفق تصنيف منظمة الصحة العالمية.

صرّح الدكتور خليل الدقران المتحدث باسم وزارة الصحة بغزة: “الاحتلال الإسرائيلي يستخدم سياسة التجويع كسلاح ممنهج، أكثر من 650 ألف طفل دون العاشرة حياتهم مهددة بالموت، وأكثر من 60 ألف امرأة حامل و60 ألف مرضعة يعانين سوء التغذية الشديد”.

العالم يرى لكنه لا يتحرك بما يكفي

توالت الإدانات من المجتمع الدولي، حيث وصف رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي الوضع في غزة بأنه “كارثة إنسانية بكل المقاييس”، مطالبًا بإنهاء معاناة المدنيين.

كما دعت أستراليا وكندا إلى وقف فوري لإطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات، فيما أكدت بريطانيا أنها ستعقد اجتماعًا طارئًا مع فرنسا وألمانيا لمناقشة سبل وقف القتل في غزة.

لكن هذه البيانات والنداءات ظلت حتى الآن عاجزة عن إيقاف المأساة أو فرض دخول المساعدات بشكل مستمر وكاف.

وسائل إعلام تدق ناقوس الخطر

تقارير من نيويورك تايمز وثقت حالة طفل عمره 11 شهرًا يزن فقط 4 كغ؛ الأطباء "يتضورون جوعًا"، كما ذكرت "بي بي سي" أن طفلاً من كل خمسة في غزة يعاني من الجوع الحاد، أما "التايمز" فنقلت مشاهد لأطفال بأذرع وأرجل كالعصي، وآباء يراقبون موت أبنائهم ببطء، فيما سألت CNN: “كم طفلًا سيموت قبل أن يتحرك العالم؟”.

يعيش سكان قطاع غزة تحت حصار خانق منذ أكثر من 17 عامًا، تفاقم بعد الحرب الأخيرة ليصل إلى أسوأ مستوياته، لم يقتصر العدوان على القصف والهدم، بل امتد إلى أساسيات البقاء: الماء، والغذاء، والدواء.

الحصار المستمر منع دخول أكثر من 90% من الاحتياجات الطبية الحيوية، وأدى لتدمير البنية التحتية للمستشفيات، التي باتت عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من الرعاية.

جرح لا يندمل 

حتى لحظة كتابة هذا التقرير، ارتفع عدد الشهداء إلى 59,587 شهيدًا، بينهم أكثر من 19 ألف طفل، إضافة إلى أكثر من 143,498 مصابًا، ورغم أن هذه الأرقام مأساوية بذاتها، إلا أن ما هو أفظع منها أن العالم يشاهد الكارثة في بث حي... دون أن يتحرك بما يكفي.

تقول أم فلسطينية: “كشخص بالغ يمكنني التحمل، لكن أطفالي لا يستطيعون”.

في اللحظات التي استغرقها العالم ليقرأ هذا التقرير، ربما فقدت أم أخرى طفلها، أو توقف قلب رضيع آخر في حضن أبيه بسبب الجوع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية