كوريا الجنوبية على مفترق طرق.. قانون العناية الواجبة يفتح جبهة جديدة في معركة حقوق الإنسان
كوريا الجنوبية على مفترق طرق.. قانون العناية الواجبة يفتح جبهة جديدة في معركة حقوق الإنسان
في خطوة لقيت ترحيبًا حقوقيًا وتحفظًا في الأوساط الاقتصادية، أعادت كوريا الجنوبية مؤخرًا طرح مشروع قانون العناية الواجبة بحقوق الإنسان والبيئة، وسط تعهدات حكومية جديدة بالشفافية والحوكمة المستدامة، المشروع، الذي أعيد تقديمه في يونيو 2025 على يد النائب جونغ تاي-هو، يهدف إلى وضع الشركات الكورية والأجنبية العاملة في البلاد أمام مسؤوليات قانونية مباشرة تجاه حقوق الإنسان والبيئة وسلاسل التوريد، ما قد يشكل نقطة تحول فارقة في تاريخ المنطقة الحقوقي والتنظيمي.
ينص مشروع "حماية حقوق الإنسان والبيئة من أجل إدارة أعمال مستدامة" على إلزام الشركات الكبرى بإنشاء أنظمة داخلية لرصد ومعالجة الأثر البيئي والاجتماعي لأنشطتها، ويشمل ذلك إعداد خطة سنوية للمراقبة، وتشكيل لجنة إشراف مستقلة، وتقديم تقرير علني سنوي حول الانتهاكات والإجراءات المتخذة.
ليس ذلك فحسب، بل يمنح القانون السلطات صلاحية إصدار أوامر تصحيحية وفرض غرامات أو حتى عقوبات جنائية على الشركات غير الملتزمة، ما يعكس نية واضحة للانتقال من التوصيات الطوعية إلى آليات إلزامية.
من أبرز ملامح القانون الجديد طبيعته العابرة للحدود؛ إذ لا يقتصر تطبيقه على الشركات الوطنية في كوريا الجنوبية فقط، بل يشمل أيضًا الشركات الأجنبية التي تملك مؤسسات داخل كوريا الجنوبية وتحقق إيرادات معينة أو توظف عددًا كبيرًا من العاملين، وهو ما قد يفرض على كيانات دولية كبرى مثل شركات التكنولوجيا والطاقة والملابس تعديل نماذج أعمالها لتتماشى مع المعايير الجديدة، مما يرسخ نهج "المساءلة الممتدة" عبر الحدود.
دعم حقوقي دولي وتحذيرات من التباطؤ
رحبت منظمات حقوقية كبرى مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية بهذا التوجه، واعتبرته خطوة طال انتظارها في آسيا، المنطقة التي طالما واجهت انتقادات بشأن انتهاكات حقوق العمال، والتلوث البيئي، والعمل القسري في سلاسل الإمداد.
وفي بيان مشترك، قالت منظمة العفو الدولية: "هذا القانون، إذا تم تمريره دون تمييع بنوده، يمكن أن يشكل معيارًا جديدًا للمساءلة في القطاع الخاص، ويضع حدًا لاستغلال العمال والموارد في الدول النامية باسم الربح".
من جهته، حذر "تحالف آسيا من أجل الشفافية" من إمكانية تراجع زخم الإصلاحات بسبب ضغوط لوبيات صناعية نافذة قد ترى في القانون تهديدًا مباشرًا لهوامش أرباحها، مطالبًا بوجود آليات رقابة مستقلة تضمن تنفيذ القانون على أرض الواقع لا على الورق فقط.
جاء إعادة طرح القانون في أعقاب الانتخابات الرئاسية في كوريا الجنوبية، والتي شهدت فوز الرئيس لي جاي ميونغ، المعروف بدعمه لقضايا البيئة والعدالة الاجتماعية، وقد تعهد خلال حملته بإنشاء وزارة جديدة للمناخ والطاقة وتوسيع نطاق استخدام الطاقة المتجددة، في مقابل الحد من الاعتماد على الطاقة النووية، التي تشكل حاليًا ما يزيد على 30% من إنتاج الطاقة في البلاد.
هذه التغييرات السياسية أعادت تشكيل أولويات البلاد نحو التنمية المستدامة، ما يجعل مشروع القانون جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة تموضع كوريا الجنوبية كدولة تقود إصلاحات الحوكمة في آسيا.
أرقام تكشف الواقع
وفقًا لإحصائيات حكومية لعام 2024:
31.7 % من طاقة كوريا الجنوبية جاءت من الطاقة النووية
10.5 % فقط من الطاقة تم توليدها من مصادر متجددة
نحو 30% من الشركات الكبرى في البلاد لا تملك سياسات معلنة لحقوق الإنسان أو تقييم تأثير بيئي منتظم.
هذه الأرقام تكشف عن حجم الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الصناعي، وهو ما يجعل القانون بمثابة اختبار حقيقي لإرادة الحكومة وقدرتها على فرض الإصلاحات.
من يقود سباق العناية الواجبة؟
رغم أن الاتحاد الأوروبي تقدم على كوريا في تشريع قوانين العناية الواجبة مثل توجيه "CSDDD"، فإن المشروع الكوري يمثل أول تشريع من نوعه في آسيا وقد سبقت بعض الدول مثل الهند بإلزام بعض الشركات بالإفصاح عن ممارسات الاستدامة (لكن دون إلزام العناية الواجبة)، واليابان التي أصدرت إرشادات طوعية منذ 2022، وتايلاند التي تعمل حاليًا على صياغة قانون مشابه.
ما يعني أن كوريا الجنوبية، إذا أقرت هذا المشروع، قد تتبوأ موقع الريادة في المنطقة في ما يتعلق بتقنين العناية الواجبة بحقوق الإنسان.
رغم الدعم السياسي والحقوقي، يواجه القانون عقبات عدة، أبرزها:
مقاومة بعض الصناعات الثقيلة مثل التعدين والبتروكيماويات، وغياب آليات رقابة مدنية فعالة، واحتمال إدخال تعديلات تُضعف النص القانوني خلال المداولات في الجمعية الوطنية.
بين الطموح والتنفيذ
مشروع قانون العناية الواجبة في كوريا الجنوبية ليس مجرد نص تنظيمي، بل يعكس صراعًا بين نموذجين؛ الأول يسعى نحو الربح دون مساءلة، والثاني يؤمن بأن الاقتصاد العادل لا يمكن أن يقوم على استغلال الإنسان والطبيعة.
فإذا نجحت كوريا الجنوبية في إقرار هذا القانون دون تراجع، فستكون قد أرست معلمًا جديدًا في مسار العدالة البيئية والاجتماعية في آسيا والعالم، وأكدت أن احترام حقوق الإنسان ليس ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة أخلاقية واقتصادية في آن واحد.