من المكسيك إلى كندا.. واشنطن توسِّع نطاق المعركة ضد شبكات تهريب البشر
تجارة بمليارات الدولارات وتحديات تتسع
في خطوة تعكس حجم التحديات المتصاعدة، أعلنت وزارة العدل الأمريكية عزمها توسيع جهود مكافحة تهريب البشر لتشمل حدود الولايات المتحدة مع كندا، الإعلان جاء وفقا لـ"فرانس برس" على لسان وزيرة العدل بام بوندي، التي شددت خلال مؤتمر صحفي يوم الخميس في فلوريدا على أن واشنطن "ستطارد شبكات التهريب أينما كانت"، مؤكدة أن تهريب البشر أصبح تجارة عابرة للحدود تتشابك مع المخدرات والأسلحة وتشكل خطراً متزايداً على الأمن والمجتمع.
من الجنوب إلى الشمال
على مدى عقود، شكّلت الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك مسرحاً رئيسياً لعمليات التهريب والاتجار بالبشر، ومع ذلك تشير التقارير الأمريكية الحديثة إلى أن الحدود الشمالية مع كندا تشهد بدورها نمواً ملحوظاً في أنشطة الشبكات الإجرامية، وأظهرت بيانات هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية ارتفاعاً في محاولات التهريب عبر ولايتي نيويورك وفيرمونت منذ عام 2023، وهو ما دفع إدارة بايدن إلى إدراج هذه المنطقة ضمن نطاق عمل "فرقة العمل المشتركة ألفا"، التي تأسست عام 2021 لملاحقة أكثر شبكات التهريب نشاطاً وخطورة في المكسيك وأمريكا الوسطى.
وبينما أُضيفت بنما وكولومبيا عام 2024 إلى نطاق عمل الفرقة، فإن التوسع الأخير نحو كندا يعكس إدراكاً متزايداً بأن المشكلة لم تعد مقتصرة على الجنوب، بل باتت تشمل الشمال حيث يستغل المهربون الطبيعة الوعرة والحدود الطويلة الممتدة لأكثر من 8 آلاف كيلومتر بين البلدين.
أسباب تصاعد الأزمة
خبراء الهجرة والجرائم المنظمة يربطون تصاعد الظاهرة بجملة من العوامل، أولها، اشتداد القيود الأمنية على الحدود المكسيكية، ما يدفع بعض الشبكات إلى البحث عن طرق بديلة عبر كندا، وثانياً، العوامل الاقتصادية، حيث تجني شبكات التهريب أرباحاً تقدر بمليارات الدولارات سنوياً من استغلال الفارين من الفقر أو النزاعات أو الكوارث في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وثالثاً، تسهيل بعض التقنيات الحديثة، مثل استخدام تطبيقات التواصل لتجنيد الضحايا أو تنسيق التحركات.
التقارير الأممية تؤكد أن الاتجار بالبشر يعد ثالث أكبر نشاط غير مشروع في العالم بعد المخدرات والسلاح، بعائدات تتجاوز 150 مليار دولار سنوياً وفق تقديرات منظمة العمل الدولية، وتعتبر الولايات المتحدة وجهة أساسية للمهاجرين واللاجئين، ما يجعلها ساحة رئيسية لشبكات التهريب.
التداعيات الإنسانية
وراء الأرقام الجافة، تتكشف قصص إنسانية قاسية؛ مئات الضحايا من المهاجرين يتم استدراجهم بوعود عمل أو لجوء، لينتهي بهم المطاف في الاستغلال الجنسي أو العمل القسري أو الابتزاز، على الحدود الشمالية، سجلت حوادث متكررة لغرق أو تجمد مهاجرين أثناء محاولات العبور غير النظامي في ظروف جوية قاسية، وفي عام 2022، عُثر على جثث أربعة أفراد من عائلة هندية، بينهم طفل رضيع، قضوا أثناء محاولة عبور الحدود إلى ولاية مينيسوتا من كندا.
المنظمات الحقوقية تحذر من أن تشديد القبضة الأمنية وحده لن يحل الأزمة، بل قد يزيد من خطورة الرحلات ويضاعف المخاطر على المهاجرين، فبحسب "هيومن رايتس ووتش"، يؤدي الإغلاق المتزايد للمعابر الرسمية إلى دفع الناس نحو طرق أكثر خطورة، ما يرفع معدلات الوفيات والانتهاكات.
القانون الدولي والمساءلة
من منظور قانوني، يعرّف بروتوكول باليرمو التابع للأمم المتحدة الاتجار بالبشر بأنه تجنيد أو نقل أو إيواء أشخاص باستخدام وسائل مثل التهديد أو الخداع أو القوة لغرض الاستغلال، والولايات المتحدة طرف في هذا البروتوكول منذ عام 2005، ما يضع عليها التزامات دولية لمكافحة الظاهرة وحماية الضحايا.
لكن منظمات حقوقية محلية، مثل "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية"، تنتقد سياسات واشنطن التي تركز على العقاب أكثر من الحماية، مؤكدة أن العديد من الناجين من التهريب يعاملون كمجرمين بدلاً من منحهم وضعاً قانونياً آمناً ودعماً نفسياً واجتماعياً.
أرقام حديثة
تشير بيانات وزارة الأمن الداخلي الأمريكية إلى أن سلطات الحدود اعترضت أكثر من 2.4 مليون محاولة عبور غير نظامي في السنة المالية 2023، معظمها من الحدود الجنوبية، أما على الحدود الشمالية، فرغم أن الأعداد أقل بكثير، فقد تضاعفت تقريباً مقارنة بعام 2021، وهو ما أثار قلقاً متزايداً لدى السلطات.
على الصعيد العالمي، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 50 مليون شخص حول العالم كانوا ضحايا للعبودية الحديثة عام 2021، بينهم 27.6 مليون في العمل القسري و22 مليون في الزواج القسري، وغالبية هذه الحالات مرتبطة بشكل أو بآخر بشبكات تهريب البشر.
ردود الفعل الأممية
مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة رحّب بتوسيع الجهود الأمريكية، لكنه شدد على أن مكافحة تهريب البشر تتطلب تنسيقاً دولياً عابراً للحدود وتبادلاً للمعلومات بين الأجهزة، كما دعا إلى زيادة الاستثمارات في برامج التنمية ومكافحة الفقر باعتبارها جذوراً أساسية تدفع الأفراد إلى الوقوع في فخ المهربين.
بدورها، أكدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أي إجراءات أمنية يجب أن تراعي حق الأفراد في طلب اللجوء، مشيرة إلى أن الكثير من محاولات العبور غير النظامي مرتبطة بأشخاص يفرون من العنف أو الاضطهاد.
قضية تهريب البشر ليست جديدة على الحدود الأمريكية، ففي مطلع التسعينيات، شهدت البلاد موجة كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من المكسيك وأمريكا الوسطى، ما أدى إلى إطلاق عملية "حارس الحدود" عام 1994، ورغم تكلفتها الضخمة فإنها لم توقف الظاهرة بل دفعت الشبكات إلى تطوير أساليب جديدة أكثر تعقيداً، بما في ذلك استخدام الحدود الكندية لاحقاً.
اليوم، ومع تعقّد الأزمات العالمية، من الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط إلى التغير المناخي الذي يفاقم الهجرة في مناطق واسعة، يجد المهربون أرضية خصبة لتوسيع نشاطهم، وتؤكد تقارير حديثة أن كلفة تهريب شخص واحد عبر الحدود قد تصل إلى عشرة آلاف دولار، ما يدر على الشبكات أرباحاً طائلة تجعلها قادرة على تجاوز الحواجز الأمنية والتقنية.
الحاجة إلى مقاربة شاملة
يرى خبراء الأمم المتحدة أن نجاح أي استراتيجية لمكافحة التهريب يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحل الأمني وحده، لتشمل مسارات قانونية للهجرة، وتعزيز التعاون مع الدول المصدرة للمهاجرين، وتوفير برامج حماية ودعم للضحايا. كما يشيرون إلى أن التعاون بين الولايات المتحدة وكندا يعد اختباراً لمدى قدرة الدول المتقدمة على بناء شراكات إنسانية وأمنية متوازنة في مواجهة تحدٍ يتجاوز الحدود الوطنية.
توسيع واشنطن جهود مكافحة تهريب البشر نحو الحدود الكندية يعكس إدراكاً متزايداً بأن الأزمة ليست محصورة بجغرافيا أو إقليم واحد، إنها أزمة إنسانية عالمية تمس حياة الملايين وتدر أرباحاً هائلة لشبكات الجريمة المنظمة، وبينما تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها تعزيز الإجراءات الأمنية، يبقى التحدي الأكبر هو ضمان ألا يدفع الضحايا الثمن مضاعفاً، وأن تترافق السياسات مع التزامات حقيقية بحماية الإنسان وصون كرامته.