كبار السن بين التهميش والحقوق المنسية.. تقرير أممي يسلط الضوء على انتهاكات مخفية
كبار السن بين التهميش والحقوق المنسية.. تقرير أممي يسلط الضوء على انتهاكات مخفية
في أروقة الدورة الـ60 لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة في جنيف حتى الثامن من أكتوبر 2025، برز تقرير الخبيرة المستقلة المعنية بتمتع كبار السن بجميع حقوق الإنسان، كلوديا ماهلر، كجرس إنذار بشأن أوضاع هذه الفئة التي يتزايد عددها عالميًا بينما تتعرض حقوقها للتجاهل أو الانتهاك.
التقرير، الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، كشف عن ممارسات ممنهجة من التمييز والإقصاء، وأكد أن حقوق كبار السن ليست تفضّلًا أو منحة، بل جزء لا يتجزأ من الالتزامات الدولية للدول الأعضاء.
وسلطت ماهلر الضوء على التحولات الديموغرافية التي يشهدها العالم، حيث تتضاعف أعداد كبار السن بشكل غير مسبوق. وتشير التقديرات الأممية إلى أن عدد من تجاوزوا سن الـ60 قد يصل إلى أكثر من ملياري شخص بحلول عام 2050. وهذا النمو السريع يفرض تحديات على نظم الصحة والرعاية الاجتماعية والاقتصاد، لكنه في الوقت نفسه يضع ملف حقوق كبار السن في صدارة النقاش الدولي.
وأشارت الخبيرة إلى أن وتيرة الشيخوخة لا تسير بشكل متوازٍ في جميع المناطق، إذ تتسارع في بعض الدول النامية دون أن ترافقها بنية تحتية مؤسسية كافية. والنتيجة هي فئات واسعة من كبار السن بلا حماية اجتماعية كافية أو فرص متكافئة في العمل والرعاية.
انتهاكات في الخفاء
وكشف التقرير عن أن التمييز ضد كبار السن لا يقتصر على الممارسات الفردية أو المجتمعية، بل يتجذر في النظم القانونية والسياسات العامة. فالكثير من الدول لا تملك تشريعات محددة لحماية حقوق كبار السن، فيما تظل الشكاوى المتعلقة بالعنف والإهمال والإقصاء بلا آليات متابعة فعالة.
ورصدت الخبيرة المستقلة أنماطًا متكررة من الانتهاكات، أبرزها الحرمان من الخدمات الصحية المناسبة، وغياب الرعاية طويلة الأمد، إلى جانب التمييز في سوق العمل. كما أشار التقرير إلى أن جائحة كورونا الأخيرة كشفت هشاشة الأطر المؤسسية، حيث كان كبار السن الأكثر عرضة للوفيات والإقصاء من الأولويات الصحية.
من النقاط المركزية التي أثارتها ماهلر في تقريرها أن النظام الدولي لحقوق الإنسان لم يعتمد حتى الآن صكا ملزما خاصا بكبار السن، على غرار ما هو قائم بالنسبة للنساء أو الأطفال أو ذوي الإعاقة. ورغم وجود مبادرات سياسية مثل خطة مدريد الدولية للشيخوخة، فإن غياب معاهدة ملزمة يجعل حماية هذه الفئة رهينة لإرادة الدول وإمكاناتها الوطنية.
وأكدت الخبيرة أن هذا الفراغ القانوني يُبقي كبار السن في دائرة الضعف، حيث لا توجد آلية دولية فعالة لمساءلة الدول التي تتقاعس عن الوفاء بالتزاماتها تجاه هذه الفئة.
تمييز متقاطع
لفت التقرير الانتباه إلى أن كبار السن لا يشكلون مجموعة متجانسة، بل يتقاطع وضعهم مع عوامل أخرى مثل النوع الاجتماعي، والإعاقة، والانتماء العرقي أو الإثني. فالنساء كبيرات السن يواجهن أشكالًا مضاعفة من التمييز، سواء في الحصول على الرعاية الصحية أو في المشاركة الاقتصادية والاجتماعية. كذلك يتعرض كبار السن من الأقليات أو ذوي الإعاقة لتهميش مضاعف، ما يستدعي سياسات تأخذ في الاعتبار هذا التنوع داخل الفئة العمرية نفسها.
وشددت ماهلر على أن الحق في العمل لا يسقط بمجرد بلوغ سن معينة. ومع ذلك، أشارت إلى أن العديد من الدول تفرض حدودًا عمرية صارمة على التوظيف، ما يحرم كبار السن من المشاركة في الحياة الاقتصادية رغم قدرتهم على العطاء.
وأكد التقرير أن سياسات الإقصاء هذه لا تُضعف فقط من حقوق الأفراد، بل تحرم المجتمعات من خبرات متراكمة، وتساهم في ترسيخ الصور النمطية السلبية عن كبار السن باعتبارهم عبئًا لا موردًا.
فجوة عميقة
وخصصت الخبيرة المستقلة مساحة واسعة لتسليط الضوء على التفاوت في الحصول على الرعاية الصحية، حيث يواجه كبار السن في كثير من الدول عقبات مالية ومؤسسية للوصول إلى الخدمات.
وأشار التقرير إلى أن نظم التأمين الصحي في عدد من البلدان لا تغطي احتياجات الشيخوخة بشكل كافٍ، خاصة في ما يتعلق بالأمراض المزمنة والرعاية طويلة الأمد.
ولفتت ماهلر إلى أن حرمان كبار السن من الرعاية الصحية لا يمثل فقط انتهاكًا لحق أساسي، بل يعمق أيضًا من الفقر والإقصاء الاجتماعي، نظرًا لارتفاع تكاليف العلاج والعجز عن تحملها.
أحد الجوانب المظلمة التي كشفها التقرير هو تفشي العنف وسوء المعاملة ضد كبار السن، سواء في المؤسسات أو داخل الأسر. وأكدت ماهلر أن هذه الانتهاكات غالبًا ما تبقى في الظل بسبب الخوف من الإبلاغ أو نقص آليات الحماية.
ودعت إلى التعامل مع هذه الجرائم باعتبارها انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وليس مجرد قضية اجتماعية أو عائلية، مشيرة إلى ضرورة تدريب العاملين في الرعاية على رصد ومنع هذه الممارسات.
كبار السن والفضاء المدني
وأبرز التقرير كذلك أن تهميش كبار السن يمتد إلى الفضاء المدني والسياسي، حيث غالبًا ما يتم استبعادهم من عمليات صنع القرار أو تجاهل أصواتهم في النقاشات العامة. وشددت ماهلر على أن المشاركة السياسية ليست مرتبطة بعمر محدد، وأن ضمان حق كبار السن في التعبير والمشاركة يعزز من ديمقراطية المجتمعات.
في ختام تقريرها، جددت الخبيرة المستقلة دعوة المجتمع الدولي إلى النظر بجدية في اعتماد صك دولي ملزم لحماية حقوق كبار السن، يضع معايير واضحة للمساءلة، ويضمن تمتع هذه الفئة بجميع حقوقها على قدم المساواة مع غيرها.
وشددت ماهلر على أن أي تأخير في هذه الخطوة يعني استمرار ملايين الأشخاص في مواجهة التمييز والإقصاء دون حماية فعلية، مؤكدة أن الوقت قد حان لتجاوز الخطابات العامة إلى التزامات قانونية واضحة.
وأكدت ماهلر أن المجلس، من خلال دورته الـ60، يتحمل مسؤولية دفع الدول نحو خطوات ملموسة، محذرة من أن استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى تفاقم الفجوة بين الالتزامات المعلنة والواقع الميداني، كما أوصت بضرورة إدراج قضايا كبار السن ضمن أولويات التعاون الدولي، بما في ذلك الدعم المالي والتقني للدول النامية، لضمان بناء أنظمة حماية متكاملة.