الطاقة المتجددة ومسؤولية الدول.. متى يصبح الانتقال الأخضر انتهاكاً لحقوق الإنسان؟
الطاقة المتجددة ومسؤولية الدول.. متى يصبح الانتقال الأخضر انتهاكاً لحقوق الإنسان؟
يشكل تغير المناخ في العقدين الأخيرين تهديداً مباشراً لحقوق الإنسان، وفي 2025 تتسارع دول العالم لرفع سعة الطاقة المتجددة، مع أرقام قياسية في التوسع، لكن النمو السريع لا يخلو من مخاطِر إنسانية وجيوسياسية، فمشاريع الرياح والشمس وتسريع استخراج معادن الانتقال يضعان أمام القانون الدولي ومجتمع حقوق الإنسان اختباراً أساسياً.. كيف نُوسّع الطاقات النظيفة من دون أن نخسر حقوق المجتمعات المحلية والقبائل الأصلية والعمال والمدافعين عن الأرض؟
"جسور بوست" ترصد في التقرير الآتي أسباب وتداعيات المشكلة، ومواقف منظمات حقوق الإنسان، والمقترحات الفنية واالقانونية لردع الانتهاكات.
في البداية يجب الإشارة إلى أن الانتقال الأخضر في الطاقة هو تحوّل جذري في نظم إنتاج واستهلاك الطاقة للابتعاد عن الوقود الأحفوري نحو مصادر متجددة ونظيفة مثل الطاقة الشمسية والرياح، بهدف تقليل انبعاثات الكربون وتحقيق أهداف مناخية مستدامة، يشمل هذا التحول استثمارات في كفاءة الطاقة، وتطوير أسواق الطاقة المتجددة، وتكييف الأطر التنظيمية، وخلق فرص عمل جديدة، وتعزيز الابتكار في التقنيات البيئية.
حجم التوسّع والسرعة
شهد عام 2024 قفزة تاريخية في نشر الطاقة المتجددة حيث أضافت دول العالم مئات الغيغاواط، فيما بلغت الزيادة السنوية رقماً قياسياً يقارب 740 غيغاواط، مدفوعةً بالهيمنة الكاسحة للطاقة الشمسية، هذا الإيقاع يستدعي توسعاً واسعاً في سلاسل التوريد والتعدين والبنية الأرضية للمشاريع، ما يرفع احتمالات النزاعات المجتمعية وإساءة استخدام الموارد المحلية إذا لم تقترن هذه الوتيرة بضوابط حقوقية قوية.
تتداخل عوامل عدة تقود إلى انتهاكات ملموسة تتمثل في ضغوط الأداء والزمن لبدء تشغيل المشاريع، غياب الشفافية في سلاسل التوريد خصوصاً في استخراج المعادن الحرجة، ضعف حماية الحقوق القانونية للشعوب الأصلية في العديد من الدول، وتدهور فضاءات المجتمع المدني وقمع المدافعين المحليين في مناطق تنفيذ المشاريع، فضلاً على ذلك، تبيّن أن بعض الشركات لم تطبق بعد معايير العناية الواجبة بالحقوق في المراحل الأولى لسلاسل التوريد، ما يجعلها معرضة لمخاطر التورط في انتهاكات خارج مواقع البناء نفسها.
تتبدّى الانتهاكات في إزالات قسرية للأراضي، فقدان سبل العيش التقليدية، تعطّل مصادر مياه أو تلوثها، وتقييد حرية التعبير والتجمع للمتظاهرين والمدافعين، والأثر الإنساني فوري وطويل المدى يتجسد في فقدان دخل الأسر، نزوح داخلي محدود أو دائم لبعض المجتمعات، تآكل الثقافة والهوية لدى الشعوب الأصلية، وتهديد سلامة المدافعين عن الحقوق الذين يتعرّضون للملاحقة أو العنف، وعلى مستوى أوسع، يؤدي فقدان ثقة المجتمعات المحلية إلى تأخير تنفيذ مشاريع استراتيجية أو إلى إلغائها، ما يضعف جدوى الانتقال الطاقي ويكلف الاقتصاد العالمي ثمناً مزدوجاً وفق "Business & Human Rights Resource Centre".
ماذا تكشف مؤشرات 2025؟
النسخة الرابعة من مؤشر الطاقة المتجددة وحقوق الإنسان لفحص 35 شركة عبر سلسلة القيمة تُظهر تقدماً سياسياً لدى عدد من الشركات، لكن ثغرات جوهرية لا تزال قائمة، نحو ستة من كل عشرة شركات حسّنت سياساتها منذ 2023، وإدماج مبدأ العناية الواجبة انتشر بين مطوري المشاريع ومصنعي المعدات بدرجات متفاوتة، مع ذلك، يذكر المؤشر أن التزام الشركات بحقوق الشعوب الأصلية وبتوفير شفافية كاملة لسلاسل التوريد لا يزال ضعيفاً، وأن غالبية المطورين لا يملكون التزامات واضحة بشأن الموافقة الحرة المسبقة والمستنيرة.
دعت منظمات دولية مرموقة، بينها هيومن رايتس ووتش و"أمنستي" و "Swedwatch"، إلى ربط التوسع الطاقي بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، والتحرك لحماية المدافعين عن الأرض والبيئة، كما حثّت تقارير أممية الخبراء على توضيح أن استخراج معادن الانتقال يجب أن يلتزم بالمعايير الدولية لتجنّب استغلال المجتمعات الضعيفة، وفي السياق القانوني، حفزت زيادة القلق الدولي تطوراً قضائياً جديداً، إذ أصدرت محاكم وهيئات دولية وآراء استشارية أخيراً توجهات توضح التزامات الدول والشركات في مواجهة الأضرار المناخية وحقوق الإنسان.
الإطار القانوني الدولي
الالتزامات الدولية واضحة حيث وضعت المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال وحقوق الإنسان إطار الحماية والاحترام والانتصاف الذي يحمّل الدول مسؤولية الحماية والشركات واجب الاحترام وتوفير سبل انتصاف فعالة، كما توفر إرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منظومة عملية للتدقيق في سلاسل توريد المعادن، إضافة إلى ذلك، تفرض أحكام الإعلان الدولي لحقوق الشعوب الأصلية ضرورة استشارة الشعوب ومراعاة موافقتها الحرة المسبقة والمستنيرة عند المشاريع التي تؤثر في أراضيهم وثقافتهم، تفعيل هذه القواعد في عقود وتمويل المشاريع يبقى المفتاح لخفض المخاطر، وفق مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
وفق المنظمات الحقوقية يتعين على الجهات الفاعلة الدولية والحكومات والمستثمرين والمطورين اعتماد حزمة إجراءات متكاملة تشمل إلزامية العناية الواجبة في سلاسل التوريد، ونشر خرائط شفافة للأثر البيئي والاجتماعي قبل الموافقة، واعتماد آليات مشاركة منصفة للعوائد المحلية، وضمان الوصول الكامل للمدافعين عن الحقوق والبحث المستقل، وإدراج بنود ملزمة للامتثال لحق الشعوب الأصلية في عقود المنح والتمويل، كما يجب تفعيل آليات انتصاف فاعلة وطنياً ودولياً لمساءلة الأطراف المتسببة في الأضرار.
عام 2025 يؤكد مفارقة جوهرية، فالعالم يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تسريع الانتقال إلى الطاقات النظيفة، لكنه لا يمكن أن يحقق أهداف المناخ بطرق تقوّض حقوق الإنسان، والتحول العادل يتطلب دمج حقوق الإنسان في كل قرار استثماري وتقني، وإلا فقد يُحوَّل إنجاز بيئي إلى أزمة اجتماعية.