الإعلام المعاصر.. أيُّ دور للأخلاق؟

الإعلام المعاصر.. أيُّ دور للأخلاق؟

 


لقد أدَّى استخدام الإعلام أداةً في صراعات اجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة، على مدى عقود طويلة، إلى الإساءة لصورته، وخفض معدلات الثقة به لدى الجمهور.

كما تأثر الإعلام بالقيود والضغوط والممارسات غير المهنية التي وجد نفسه يعاني تبعاتها الثقيلة، بسبب أنماط الإدارة والمِلْكية، وهيمنة الأنظمة السياسية؛ الأمر الذي زاد الالتباس فيما يتعلق بالأخلاقيات التي تحكم الممارسة المهنية الإعلامية.

وبينما كانت تلك الضغوط تتوالى على صناعة الإعلام، وتنال من قدرتها على تحقيق سوية أخلاقية مهنية تستجيب للتطلعات، طرأت تغيرات تقنية متسارعة، رفدت المجال الإعلامي بإطارين جديدين ومؤثرين: أولهما يتجسد في وسائل «التواصل الاجتماعي»، وثانيهما يتعلق بالدور الجديد لممكنات الذكاء الاصطناعي، وهما إطاران صدَّرا للمجال الإعلامي مزيداً من التحديات الأخلاقية، وطرحا أسئلة صعبة، ما زال معظمها دون إجابات شافية.

وقد يجد بعضهم أن الحديث عن الأخلاق فيما يتعلق بالأمور المهنية الاحترافية أمر غريب؛ لكن الواقع يؤكد أن الالتزامات الأخلاقية ظلت ضرورة مُلحَّة للحد من الأخطاء المهنية، وتحقيق قدر من كفاءة الأداء المهني، وكذلك أضحت شرطاً واجباً لضمان حماية مصالح الأطراف المتصلة به.

وعلى مدى نحو قرن من الزمان، جرى تطوير ميراث من أدبيات الضبط والتنظيم ومواثيق الشرف التي استهدفت تعزيز النزعة الأخلاقية في الممارسة الإعلامية، ما ترك أثراً يمكن قياسه على جودة المواد الإعلامية التي بُثَّت للجمهور، من دون أن يعني ذلك أن تلك الممارسات لم تحفل بكثير من الإساءات والتجاوزات في نظم إعلامية مختلفة.

وفي الوقت الذي كانت فيه أدبيات الإعلام والأكاديميات ومراكز التفكير والمؤسسات الإعلامية ذاتها تبذل جهوداً لتعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي، تغيَّر المشهد الاتصالي العالمي قُرب نهايات القرن الماضي، مع بروز الإعلام الرقمي، ووسائل «التواصل الاجتماعي».

لقد فرض الإعلام الرقمي تحديات كبيرة على مبحث أخلاقيات الإعلام، وكان أحد أهم تلك التحديات ما يتعلق بمفهوم الصحفي نفسه، وقدرتنا على تعريفه، إضافةً بالطبع إلى فكرة سقوط «حارس البوابة»، وهي الفكرة التي كانت محوراً أساسياً اعتمدت عليه وسائل الإعلام «التقليدية» في تعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي.

وعلى عكس القيم والمعايير المهنية، فإن الأخلاق قد ترتبط بإدراكك مدى وجودها أكثر من ارتباطها بمعايير محددة، يمكن بها قياس ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.

ولهذا، فإن تعريفنا لما هو أخلاقي -أو عكس ذلك- في الممارسة الإعلامية، يظل مرتبطاً بالسياق الذي نعيش فيه، وبالاعتبارات الثقافية والاجتماعية الفاعلة والمؤثرة.

ورغم الاختلاف بين المُنظِّرين والفلاسفة في تعريف الأخلاق ومدى ارتباطها بالمجال الإعلامي، فإن الأكاديميات والمنظمات والمؤسسات الإعلامية المعنية بحرية الصحافة وتطورها، لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي المتمثل في صعوبة تشخيص المنحَى الأخلاقي.

وبدا أن هناك قدراً من التوافق حول معنى الدور الأخلاقي للإعلام، الذي يمكن أن يتلخص في قدرة الإعلام والإعلاميين على انتقاء الأخبار والمعلومات والقصص التي تقع ضمن اهتمامات الجمهور، واختيار الأطراف الفاعلة في تلك الموضوعات بعناية، وإيراد حجج تلك الأطراف بعدالة، ومنحها الحقوق المتكافئة للدفاع عن وجهات نظرها، من دون أي توجيه أو محاولة لحَرف الاتجاه. وبينما تجري تلك العملية بأقصى درجة من مراعاة التوازن، فإنه يجب أن تتم حماية الأطراف من الاستهداف غير الموضوعي، واعتبار الحق الشخصي، وعدم انتهاك الخصوصية، فضلاً على الالتزام بمقتضيات النزاهة الشخصية للإعلامي، وإيلاء اعتبار للمسؤولية الاجتماعية.

ويُعرِّف بعض الباحثين نظرية المسؤولية الاجتماعية في مجال الصحافة والإعلام، بأنها مجموعة الوظائف التي يجب أن تلتزم الصحافة بتأديتها أمام المجتمع، في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بحيث تتوفر في معالجاتها وموادها القيم المهنية، كالدقة والموضوعية والتوازن والإحاطة والإنصاف، شريطة أن تتوفر للصحافة حرية حقيقية تجعلها مسؤولة أمام القانون والمجتمع.

ولكنَّ الشيطان يكمن عادة في التفاصيل، كما يفيد القول الشهير في هذا الصدد. ولذلك، فإن الاختلاف يقع كثيراً حول ما هو أخلاقي وما هو غير ذلك، وهنا تبرز أهمية الجانب المؤسسي في صناعة الإعلام؛ حيث يُلزم هذا الجانب الناشرين بتحديد هوية المؤسسة الصحفية، ومفهومها لدورها، كما يطالبها بأن تعلن بيان مُهمتها واضحاً، متضمناً تعريفها للقيم التي تتبعها، والوسائل التي تعتمدها لضمان التزام تلك القيم.

ولما كانت «السوشيال ميديا» لم تستطع إنجاز ميراث مشابه في الممارسة المهنية، وكذلك الذكاء الاصطناعي الذي لم تُفلح محاولات تأطيره وتنظيمه في مواكبة سرعة تطوير أدواته، فإن المشكلة الأخلاقية في الممارسة الإعلامية تتعقد، وتفرض على الصناعة تحديات جديدة.


نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية