الحق في التنمية العادلة.. معركة إفريقيا لحماية غاباتها من الاستغلال الأخضر

الحق في التنمية العادلة.. معركة إفريقيا لحماية غاباتها من الاستغلال الأخضر
حماية الغابات الإفريقية

تُطلّ قرية إنغاندا في عمق حوض الكونغو الديمقراطية كأنها تنبض بالحياة القديمة نفسها، حياة الغابات المطيرة التي قاومت قرونًا من النهب، حيث تمتد أشجار الماهوجني والكاوبالي، وهناك يعيش خليط من البانتو والبيغمي في أكواخ طينية تتناثر على أطراف الطرق الترابية، عاد القرويون يزرعون الكسافا في فسحات الغابة، بعد أن توقفوا عن صيد القرود والشمبانزي، يقول أحد المرشدين إن الحيوانات عادت لأن الناس توقفوا عن مطاردتها، في مشهد بسيط لكنه يختصر علاقة معقدة بين الإنسان والطبيعة.

بحسب تقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست"، يُعدّ هذا المشروع جزءًا من مبادرة "صندوق المجتمع للغابات"، وهو برنامج مدعوم من النرويج يقدّم مساعدات مالية للقرويين مقابل تعهدهم بحماية أراضيهم من التطوير، ويأمل القائمون عليه أن تقلل هذه المدفوعات من الاعتماد على زراعة القطع والحرق التي تلتهم الغابات، وأن تُعيد إلى الأرض توازنها المفقود، غير أن هذا النموذج، الذي يبدو في ظاهره إنقاذًا للغابات، يثير سؤالًا أعمق: هل حماية البيئة تُحقق العدالة، أم تخلق شكلاً جديدًا من التفاوت؟

الطبيعة تتحول إلى سلعة

تسعى مبادرات الحفاظ على الغابات في إفريقيا إلى تحويل العلاقة مع الطبيعة إلى علاقة اقتصادية، تُقاس بالكربون، وتُسعّر بالأصول البيئية، إلا أن هذا الاتجاه -كما تشير صحيفة "فايننشيال تايمز"- يُعيد تعريف التنمية من منظور رأس المال لا من منظور الحقوق، فحين تُدفع الأموال مقابل إبقاء الأشجار واقفة، تصبح الطبيعة مصدر دخل جديد، لكن أيضًا مجالًا للمضاربة.

في قلب هذه المعادلة، يجد سكان القرى أنفسهم أمام خيارات صعبة، في إنغاندا، يرحّب القرويون بالدعم المالي الذي يمنحهم فرصة لتحسين معيشتهم، لكنهم يدركون أن القيمة الحقيقية للأرض تتجاوز ما تقدّمه الصناديق الدولية، و في قرى أخرى غير مشمولة بالبرنامج، باع السكان أراضيهم لشركات قطع الأشجار التي فتحت الطرق العريضة نحو كينشاسا.

توضح "الإيكونوميست" أن ضعف الدولة الكونغولية وفسادها يجعلان إنفاذ حقوق الملكية أمرًا بالغ الصعوبة، وهكذا، تتحول حماية الطبيعة إلى اختبار لقدرة الحكومات على صون حق مواطنيها في التنمية المستدامة، لا مجرد مسألة بيئية.

التمويل الأخضر

في كينيا، يتكرر المشهد ذاته بصيغة أخرى، وتشير "الإيكونوميست" إلى تجربة منطقة كيتينجيلا-كيبيتو قرب نيروبي، حيث يحصل السكان على مبالغ مالية لقاء منع تطوير أراضيهم، غير أن القائد المحلي نيكسون بارميسا يؤكد أن هذه المدفوعات "لا تساوي قيمة الأرض"، وأن الإغراء بالبيع يظل أقوى من وعود الحفاظ على التنوع البيولوجي.

تُبرز هذه المفارقة مأزق ما يُسمى "التمويل الأخضر"، وهو ما أشار إليه تحليل في "فايننشيال تايمز"، الذي أوضح أن الأسواق البيئية الجديدة تُخفي وراءها اختلالًا في توزيع المنافع، فبينما تُقدَّم هذه البرامج باعتبارها أدوات لتحقيق العدالة المناخية، فإنها في الواقع تُعيد إنتاج منطق السيطرة القديم ، الدول الغنية تموّل، والدول الفقيرة تُقايض بيئتها.

وتكمن الخطورة في أن حق الشعوب الأصلية في الأرض يتحول إلى بند قابل للتفاوض في عقود الكربون، لا إلى مبدأ غير قابل للمساس.

حقوق الأرض

تذهب صحيفة "الغارديان" إلى أبعد من ذلك في تحليلها برامج التعويض البيئي، مشيرة إلى أن بعض هذه المبادرات انتهكت فعليًا حقوق السكان المحليين في مناطق عدة بإفريقيا، ففي جمهورية الكونغو برازافيل، أقرت مؤسسة "الحدائق الإفريقية" بوقوع تجاوزات من حرّاس المتنزهات ضد أفراد من قبيلة الباكا، ما أعاد إلى الواجهة إرثًا مؤلمًا من الإقصاء باسم الحماية.

تُظهر هذه الحالات أن الحفاظ على الطبيعة لا يمكن أن يتم بمعزل عن العدالة الاجتماعية، فحين تُفرض سياسات بيئية من أعلى دون إشراك المجتمعات المحلية، يتحول "الحفاظ على البيئة" إلى شكل آخر من الاستعمار.

وتُضيف "الغارديان" أن فشل التعهدات الدولية بوقف إزالة الغابات بحلول 2030 يعكس أيضًا خللاً أخلاقيًا في مقاربة الغرب لمسألة المناخ: إنقاذ الكوكب لا يجب أن يعني التضحية بحقوق الفقراء.

تُعيد الشركات الناشئة مثل "إيرث آيك" في كينيا صياغة مفهوم "الثروة الطبيعية" عبر إنشاء أسواق لأصول التنوع البيولوجي، كما توضح "الإيكونوميست"، حيث تهدف هذه الأصول إلى جذب المستثمرين الراغبين في "تعويض" آثارهم البيئية بدفع أموال لملاك الأراضي مقابل الحفاظ على البيئة، غير أن هذه التجربة، رغم ما تحمله من وعود، تُثير تساؤلات حول من يملك الحق في تحديد قيمة الطبيعة.

وتُحذّر "فايننشيال تايمز" من أن الفجوة التمويلية بين الالتزامات والاحتياجات الفعلية في مجال الحماية البيئية تصل إلى مئات المليارات من الدولارات سنويًا، ما يجعل الاعتماد على الأسواق وحدها رهانًا خاسرًا، في المقابل، تُشير "الغارديان" إلى أن انهيار الثقة في أسواق الكربون بعد اتهامات "التضليل البيئي" جعل المجتمعات المحلية أكثر حذرًا، وأضعف إيمانها بأن حماية الغابات يمكن أن تتحول إلى وسيلة فعالة للتنمية.

الاستغلال الأخضر

تُذكّر تجربة الغابون، التي عرضتها "الإيكونوميست"، بأن الحل لا يكمن في إيقاف التنمية بل في تحقيق توازن عادل بين الاقتصاد والبيئة، فقد تمكنت البلاد، بفضل سياسات القطع المستدام، من زيادة أعداد الفيلة البرية بنسبة 60% منذ التسعينيات، دون أن تتخلى عن طموحها التنموي، لكن حتى هذا النموذج يواجه ضغوطًا شديدة في ظل تراجع التمويل الدولي وتردد الدول الغنية في الوفاء بتعهداتها المناخية.

يقول وزير البيئة السابق في الغابون، لي وايت، إن بلاده كانت تسعى إلى "التنمية دون فقدان الغابات"، غير أن الأسواق لم تكن مستعدة لدفع الثمن الحقيقي لذلك، هذه الجملة تُلخص مأزق القارة بأكملها: كيف تحمي إفريقيا حقها في التقدم من دون أن تُجبر على بيع بيئتها بأبخس الأثمان؟

تكشف تجربة القرى الإفريقية أن العدالة البيئية ليست مسألة تقنية أو اقتصادية، بل قضية حقوق إنسان في المقام الأول، حيث لا ينفصل الحق في التنمية عن الحق في بيئة آمنة، والحق في الحماية لا يعني حرمان المجتمعات من السيادة على أرضها، و حين تُحوّل الأسواق الخضراء الطبيعة إلى سلعة، يصبح الدفاع عن الغابات دفاعًا عن الكرامة الإنسانية ذاتها.

وبينما يتجه العالم إلى مؤتمر المناخ المقبل "كوب30"، تُذكّر إفريقيا الجميع بأنها ليست مخزن كربون للعالم، بل قارة تسعى إلى العدالة. وكما تقول "الإيكونوميست" في ختام تحليلها، لا يمكن للغابات أن تبقى واقفة ما لم يُمنح الإنسان الذي يعيش بينها الحق في الوقوف أيضًا.



 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية