من الميدان إلى الزنزانة.. كيف حوّل النظام الإيراني الصحفيين إلى أسرى روايته الرسمية؟

من الميدان إلى الزنزانة.. كيف حوّل النظام الإيراني الصحفيين إلى أسرى روايته الرسمية؟
صحف إيرانية

يوافق الثاني من نوفمبر اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم ضد الصحفيين، وهو مناسبة تتجاوز حدود التضامن المهني لتغدو اختباراً عالمياً لإرادة حماية الحقيقة، وفي هذا العام، تتجه الأنظار مجدداً إلى إيران، حيث تتكشف واحدة من أعقد الأزمات في سجل حرية الصحافة خلال السنوات الأخيرة، بعدما تحولت ممارسة المهنة إلى فعل محفوف بالملاحقة والاعتقال والتهديد المستمر، فخلال الأعوام الثلاثة الماضية، وثقت منظمات محلية ودولية موجة غير مسبوقة من القمع ضد الصحفيين الإيرانيين، اتخذت طابعاً منظماً ومتصاعداً، وأفضت إلى عشرات الأحكام القضائية القاسية وإلى تكميم شبه كامل للإعلام المستقل.

بدأت الموجة الأشد حدة بعد اندلاع انتفاضة “المرأة، الحياة، الحرية” عام 2022 التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها من قبل شرطة الأخلاق، ومنذ تلك اللحظة، لم تعد الساحات العامة وحدها ساحة الصراع، بل انتقلت المعركة إلى فضاء الكلمة، فوفقاً لتقرير صادر عن منظمات صوت المعتقلين الكرد والإيرانيين، نقلته وكالة فرات للأنباء يوم أمس الأحد، اعتقلت السلطات في إيران منذ عام 2022 ما لا يقل عن 170 صحفياً، منهم 24 امرأة، بسبب تغطيتهم للاحتجاجات أو نشرهم معلومات عن الانتهاكات الرسمية، وأصدرت المحاكم أحكاماً بالسجن تصل إلى ستين عاماً بحق واحد وعشرين منهم، في حين حوكم واحد وأربعون آخرون دون وجود محامين أو ضمانات قانونية، في خرق واضح لحق الدفاع والمحاكمة العادلة.

بنية النظام الإعلامي

هذه الأرقام تعكس جانباً من أزمة عميقة تتصل ببنية النظام الإعلامي الإيراني نفسه الذي تحكمه منظومة من القوانين الفضفاضة تحت عناوين نشر الأكاذيب أو تعطيل الأمن النفسي العام، وتُستخدم هذه التهم لتجريم أي تغطية لا تنسجم مع الرواية الرسمية، وهو ما أدى إلى خلق بيئة من الخوف والرقابة الذاتية في غرف التحرير.

 ويؤكد تقرير منظمة "الدفاع عن حرية تدفق المعلومات" لعام 2024 أن ما لا يقل عن 256 صحفياً ووسيلة إعلام خضعوا خلال عام واحد لـ385 إجراءً قضائياً وأمنياً شمل أحكاماً بالسجن بلغت نحو سبعين عاماً، إلى جانب الجلد والغرامات المالية ومنع صحفيين من العمل وإيقاف صحف، وتضيف المنظمة أن 63 في المئة من هذه الانتهاكات وقعت في العاصمة طهران، ما يعكس تركيز السلطة على مراكز التأثير الإعلامي.

تاريخ من تقييد حرية التعبير

تتفق منظمات عدة على أن حملة القمع الحالية ليست طارئة، بل امتداد لتاريخ طويل من تقييد حرية التعبير في إيران، فمنذ مطلع العقد الماضي، واجهت الصحافة الإيرانية سلسلة من الإغلاقات المتكررة للصحف والمواقع المستقلة، واعتقالات طالت صحفيين بتهم التآمر ضد النظام والتعاون مع وسائل إعلام أجنبية، إلا أن ما بعد 2022 مثّل تحوّلاً نوعياً في شدّة القمع واتساع نطاقه الجغرافي والاجتماعي، حيث شملت الاعتقالات صحفيات وناشطين في الأقاليم الكردية والبلوشية والأذرية، وامتدت لتطال حتى الصحافة الثقافية والاجتماعية التي كانت بعيدة نسبياً عن الصدام السياسي المباشر.

وتصف منظمة مراسلون بلا حدود الوضع الحالي بأنه الأسوأ منذ عقدين، مشيرة إلى أن إيران باتت ثالث أكبر سجن للصحفيين في العالم بعد الصين وميانمار. أما لجنة حماية الصحفيين فقد أحصت في تقريرها السنوي لعام 2023 ما لا يقل عن سبعة عشر صحفياً محتجزاً حتى الأول من ديسمبر لذات العام، مؤكدة أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى بسبب التعتيم القضائي وغياب الشفافية الرسمية، وتشير التقارير إلى أن كثيراً من المعتقلين يخضعون لمحاكمات أمام محاكم الثورة التي لا تسمح بحضور مراقبين مستقلين أو ممثلين قانونيين، الأمر الذي يجعل العدالة نفسها أداة للقمع بدلاً من أن تكون وسيلة لحمايته.

تأثيرات ممتدة

لا تقف آثار هذه السياسات عند حدود العاملين في الإعلام، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية والنفسية للمجتمع الإيراني، فحين تتحول الصحافة إلى مهنة محفوفة بالخطر، ينكمش المجال العام ويُحرم المواطن من حقه في المعرفة والمساءلة، ويفسر محللون حقوقيون هذه الحالة بأنها نوع من العقاب الجماعي غير المعلن، إذ لا تستهدف السلطة الصحفي الفرد فحسب، بل الحق الجمعي للمجتمع في الحصول على معلومات مستقلة، كما تشير منظمات نسوية إلى أن النساء الصحفيات يواجهن مستويات مضاعفة من القمع، يجمع بين التمييز الجندري والعقوبة السياسية، وقد وثقت منظمة العفو الدولية حالات لاعتقال صحفيات ومدافعات عن حقوق المرأة، تعرّض بعضهن للجلد أو تهديد بالإعدام.

على الصعيد القانوني، تشكل هذه الممارسات انتهاكاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تعد إيران طرفاً فيه منذ عام 1975، وينص في مادته التاسعة عشرة على أن لكل إنسان الحق في حرية التعبير والبحث عن المعلومات وتلقيها ونقلها دون تدخل، إلا أن النظام الإيراني، وفق تقارير المنظمات الحقوقية، يواصل استخدام القضاء أداة سياسية لتقييد هذه الحقوق، فالقوانين المحلية تمنح سلطات واسعة للأجهزة الأمنية لتوقيف الأفراد بتهم تتعلق بـ“الأمن القومي”، وهي تهم لا تعريف محدداً لها في النصوص القانونية، ما يجعلها وسيلة مرنة لقمع أي شكل من أشكال النقد أو الاستقصاء الصحفي.

تنديدات دولية

وقد أثارت هذه الانتهاكات موجة استنكار دولية واسعة، وقد دعت منظمة العفو الدولية المجتمع الدولي إلى الضغط على إيران من أجل الإفراج عن جميع الصحفيين المعتقلين وضمان استقلال القضاء، في حين طالبت مراسلون بلا حدود الأمم المتحدة بتعيين مقرر خاص لمتابعة أوضاع الصحافة في إيران، معتبرة أن الإفلات من العقاب شجع السلطات على المضي في سياسة القمع، كما نددت لجنة حماية الصحفيين باستخدام تهم نشر الأخبار الزائفة والتعاون مع جهات أجنبية ضد الصحفيين الذين يغطون القضايا الإقليمية، خصوصاً في سياق التوترات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل في عام 2025. ويشير خبراء قانونيون إلى أن استمرار هذه السياسات من شأنه أن يضع إيران في مواجهة التزاماتها الدولية، وأن يفاقم من عزلتها في المحافل الحقوقية العالمية.

أبعاد إنسانية

تتخذ الأزمة بعداً إنسانياً واضحاً حين تُروى قصص الصحفيين المعتقلين الذين يعانون أوضاعاً قاسية في السجون الإيرانية، حيث يُحرم كثير منهم من العلاج أو الزيارات، ويُجبر بعضهم على الإدلاء باعترافات تحت الضغط، وفي غياب أي مساءلة حقيقية، تتعمق مشاعر الخوف واليأس داخل الوسط الإعلامي، في حين تتراجع الثقة العامة في المؤسسات الرسمية، وبذلك يصبح الإفلات من العقاب ليس فقط خرقاً للعدالة، بل وسيلة لإدامة السيطرة على الحقيقة وإعادة إنتاج الصمت.

في هذا المشهد المعتم، تبقى دعوات المنظمات الدولية لإعادة بناء الثقة بالصحافة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالمجتمع الدولي مطالب بألا يكتفي ببيانات الإدانة، بل أن يتخذ خطوات ملموسة لحماية الصحفيين الإيرانيين، مثل فرض عقوبات محددة على المسؤولين عن الانتهاكات، ودعم برامج الحماية القانونية والرقمية للعاملين في الإعلام داخل البلاد وخارجها، كما يُنتظر من الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان متابعة تنفيذ توصياتها السابقة بشأن حرية التعبير في إيران، وضمان ألا تبقى الجرائم ضد الصحفيين بلا عقاب.

إن ما يجري في إيران منذ ثلاث سنوات ليس مجرد أزمة مهنية، بل اختبار لحدود الحق في المعرفة في وجه الدولة، فحين تُكمم الأفواه باسم الأمن، وتُعاقب الكلمة بالسجن، يصبح الدفاع عن الصحفيين دفاعاً عن المجتمع نفسه، وفي هذا اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب، يظل السؤال الأهم قائماً: إلى متى سيبقى الصمت بديلاً عن العدالة، وإلى متى ستظل الحقيقة سجينة في وطنها؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية